مدونات
أسماء البري
بدأت المعركة المرتقبة للسوريين بخوفٍ وارتقاب للغد الذي دفعوا ثمنه جميعاً ولم يكن حدثاً عابراً في تاريخ سوريا، بل كان خلاصة سنوات طويلة حملت في تفاصيلها معاناة الشعب، صموده، وانتظاره للحظةٍ يعرف أنّها ستأتي مهما طال الزمن. منذ اللحظة الأولى لاندلاع المعركة الأخيرة، عاش السوريون أبناء الثورة كلّ دقيقةٍ من دقائقها بقلوبهم قبل أبصارهم. كان صوت المواجهة يتردد في كلّ بيت، وكانت الأنفاس معلّقة على خبر يتقدّم خطوة نحو النصر أو يعود خطوة إلى الخلف. ومع ذلك، لم تفقد الثورة ثباتها، ولم يهن عزم أبنائها.
دفع السوريون على مدار السنوات الماضية أثماناً باهظة، وتحمّلوا فواجع لا تُعدّ. ارتقى الشهداء واحداً تلو الآخر، يحملون على أكتافهم حكاية وطن أراد الحياة. ومع كل خسارة، كانت إرادة الناس تزداد رسوخاً. فقد أدرك الجميع أنّ الطريق نحو الحرية لا يُعبَّد بالكلمات، بل بالتضحيات التي لا يعرف حجمها إلا من عاش تفاصيلها. ولذلك كان يوم التحرير يوماً يخصّ الشهداء كما يخصّ الأحياء، ويخصّ الثورة كما يخصّ الوطن.
مع بداية المعركة الأخيرة، كان المشهد مختلفاً. بدت الخطوات ثابتة وقريبة من الهدف أكثر من أيّ وقتٍ مضى. التحرك الميداني المنظّم، والتقدم المتسارع على مختلف المحاور، أعادا للأذهان الأيام الأولى للثورة، حين كان الناس يؤمنون بأنّ التغيير ممكن، وأنّ الحقّ قادرٌ على الوقوف في وجه القمع مهما بدا ضعيفاً. كلّ تقدم في تلك الساعات كان ينعش قلباً، ويزيل غباراً تراكم فوق حلم لم ينطفئ.
وسرعان ما تحوّلت الأخبار المتفرقة إلى حقيقةٍ ملموسة.. المدن تتحرر الواحدة تلو الأخرى، الحواجز تتساقط، والأعلام ترتفع فوق المباني التي شهدت أقسى لحظات الحرب. بدا المشهد كأنّه استعادة شاملة للروح السورية التي حاولت السنوات الماضية إخمادها. وتحوّل يوم التحرير إلى مناسبة تذكّر الجميع بأنّ الثورة التي بدأت بصدور مفتوحة لم تكن يوماً خطوة عابرة، بل مساراً طويلاً صِيغَ بالألم والأمل معاً.
وكان اللافت أنّ النصر لم يُنظر إليه كمكسبٍ عسكري فقط، بل عودة إلى الهوية الوطنية التي تمسّك بها السوريون منذ اللحظة الأولى. فقد تعرّضت البلاد لمحاولاتٍ كثيرة لتفكيك وحدتها، لكن أبناء الثورة حافظوا على خيط الأمل ذاته، وأعادوا ربط الجغرافيا بالانتماء حين عادت المدن إلى أحضان شعبها، وكان التحرير شهادة واضحة على أنّ الإرادة الشعبية، مهما طال الزمن، قادرة على إعادة رسم مستقبلها بيدها.
اليوم، وبعد أن هدأت أصوات السلاح، عاد الحديث إلى ملفات إعادة الإعمار، عودة المهجرين، وتعويض آثار الحرب. لكن الأهم من ذلك هو إعادة بناء الإنسان السوري نفسه، ذاك الذي حمل الثورة على كتفيه، ووقف في وجه كلّ محاولات الانكسار. فالنصر الحقيقي لا يكتمل إلا حين يستعيد المواطن إحساسه بالأمان والكرامة، وحين يشعر أنّ تضحيات الشهداء لم تذهب هدراً.
وأثبت يوم التحرير أنّ الثورة لم تكن لحظة غضب لشعبٍ رفض الذل فقط، بل مشروعاً طويل النفس. مشروعاً بدأه شباب آمنوا بأنّ بلادهم تستحق الأفضل، وواصلته أجيال دفعت أغلى ما تملك لأجل تحقيقه. وإن كان النصر اليوم واقعاً ملموساً، فهو قبل كلّ شيءٍ انتصار لكرامة السوري، ولروح الشهداء الذين مهدوا الطريق للوصول إليه.
وهكذا بقيت الحقيقة واضحة لا شيء يمكنه إطفاء نور بلدٍ حمل أبناءه على أكتافهم أمانة الحرية. فالتحرير لم يكن نهاية الحكاية أو الثورة بل بداية فصل جديد، فصل يكتبه السوريون بأيديهم، كما كتبوا الثورة وكما صانوا الوطن في قلوبهم قبل أيديهم.



