مدونات
لا يشبه هذا الكتاب ما استقر في أذهاننا عن أجواء الكتابة؛ فلا مكتب أنيق، ولا هدوء، ولا لحظات صفاء. هناك نصوص تولد في العتمة، وتُسقى بالبارود، وتتشكّل حروفها مع قذيفة، وتنبض مع صوت الرصاص. هذا بالضبط ما يمنحه لنا كتاب “تحت راية الطوفان –خندق خباب” للشهيد محمد زكي حمد، الذي كتبه بمداد روحه وعرقه، وحمله بين جعبته وأوراقه في نقاط الرباط والاشتباك، لتشعر وأنت تقرأ أنّك لا تتصفح كلمات، بل تتلمس نبضاً عاش التجربة كاملة.
ولد محمد زكي حمد في غزة عام 1994، حفظ القرآن صغيراً، وسلك بعدها طريق العلم الشرعي، متفوّقاً في علوم الحديث والتفسير، وكانت دراسته العليا في التفسير. عُرف بسُنة سرد القرآن كاملاً في جلسةٍ واحدة، وتخرّج على يديه عشرات الحفّاظ، وشارك في مشاريع قرآنية متعددة. لم يكن مجرّد طالب علم؛ بل عابداً متبتلاً، قوّاماً صوّاماً، لا يترك قيام الليل.
كتب محمد كتابه بخطه، في ظروفٍ لا تخطر على بال: قذائف من فوق، أنفاق تحت الأرض، ودخان يخنق المكان، ومع ذلك خرج الكتاب كأنّه قطعة من وجدانه، يصف ما عاشه منذ السابع من أكتوبر، اليوم الذي مثّل نقطة تحوّل في تاريخ المنطقة. ينقل مشاهد لشباب اندفعوا نحو العدو بقلوبٍ ثابتة، يحملون أرواحهم على أكفّهم، ويصف إقداماً يسبق التردد، ويقيناً يتجاوز الخوف، وجهاداً كُتب بالدم قبل أن يُكتب بالحبر.
يمضي في سرد مشاهد البطولة في الأشهر الثقيلة اللاحقة؛ رجال يتقدّمون نحو الخطر بطمأنينة، وصدور لا تهتز تحت القصف، وصبر يتجاوز حدود الجراح. لكنّه لا يهمل الجانب الإنساني؛ فيروي حرقة المجاهدين حين دخل رمضان ولم يتمكنوا من الصلاة في المساجد التي دُمّرت، لأنّ هذه المشاهد بالنسبة له شهادة عاشها لا مجرد سرد تاريخي.
يربط الكاتب تجربته بتأملاتٍ قرآنية عميقة؛ يقف عند قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ» ليراه تعبيراً عن العدل الإلهي الذي لا يغفل عن ظالم، ويستشعر دفء العناية الربانية في سورة الضحى، كما يستحضر قصة يونس عليه السلام ليستخلص منها دروساً للداعية حين يضيق صدره أو يعجل. يجمع بذلك بين التجربة القتالية والتدبّر القرآني في مزيج نادر.
لم يكن محمد زكي حمد رجل حرب فقط؛ بل التقى عنده منبر العلم وميدان الاشتباك، فكان صوته على المنبر لا يقل حرارة عن صوته في ساحة القتال، مقدماً رؤية مفادها أنّ قيمة العلم لا تظهر إلا حين يتحوّل إلى سلوكٍ وتضحية، وأنّ التنظير وحده لا يغيّر شيئاً إن لم يصاحبه فعل.
يتوقف عند أزمةٍ عميقة حين كتب: «نحن في دعواتنا نعدّ المسلم ليتعايش مع الواقع، لا ليصنع الواقع كما أراده الله»، وهي جملة تكشف رؤيته لدور الإيمان في صناعة التغيير، لا التكيّف مع العجز.
يقدّم صوراً حية عن رفاقه؛ يتحدّث عن التلاوة في الأنفاق، تعلّقهم بالصلاة، حرصهم على قيام الليل، وتجديد النية في كلّ لحظة، مؤكداً أنّ عظمتهم لم تتشكّل من فراغ، بل من تربية روحية عميقة.
ولا يغفل مشاهد الجوع والعطش؛ أيام طويلة بلا ماء ولا طعام، حتى أصيب بعضهم بالهزال والمرض. يروي ابتلاءه قائلاً: «لقد قطع الله عنّي كلّ العلائق والخلائق، وصرت أناجيه من باطن الأرض»، ومع ذلك، يتحدث عن تذوق القرآن وكأنه غذاء للروح.
ثمّ ينتقل لرثاء صديقه أبو جعفر الذي استشهد حتى لم يعد يُرى له وجه ولا ملامح، فيقول: «آه ما أحقر هذه الدنيا… كلّ ما سيذكر هو أعمالنا»، ويضع جسده في الكيس داعياً ألا تنسيه هذه المناظر جمال الأرواح.
ويمزج الألم بالقوة في وصف القتال؛ يروي “شهوة الرمي” وكيف يتسابق المقاتلون إليها لأنّها خلاصة الجهد، لكنّه يؤكد أنّ العبرة عند الله بالنية لا بالمشهد الظاهر، ويروي ما اعتبروه كرامات؛ منها حصار مجموعة داخل مستشفى 15 يوماً بلا ماء ولا طعام ونجاتهم، وحادثة استيلاء بعضهم على كمية كبيرة من الطعام بعد غفلة من الجنود.
ومن المشاهد اللافتة قوله إنّ أحد المقاتلين أطلق ثمانية عشر مخزناً من سلاحه حتى انصهرت الفوهة لشدة الحرارة؛ صورة تعكس شراسة الاشتباك. لكنّه لا يخفي هشاشة الإنسان؛ فيقول إنه نسي شكل أولاده مع طول الحصار، وحاول تذكّر وجوههم فلم يستطع، ورأى في ذلك لطفاً من الله حتى لا يضعف قلبه.
ويشير إلى مرارة رفض بعض البيوت استقبالهم خوفاً، وإلى النوم على الأرض والبرد الذي وصل إلى العظام، ثمّ يسأل القارئ: هل شكرتم الله يوماً على نعمة الفراش والوسادة؟
ويورد تفسيراً بديعاً لآيات سورة سبأ حول حوار المتقاعسين مع الحكّام يوم الحساب، مستشهداً بها لوصف من يبرر العجز بحجة القهر السياسي، موضحاً أنّ الحقيقة يومئذ ستكون جلية، ولا تنفع الأعذار.
في نهاية الكتاب، يدرك القارئ مع أيّ رجالٍ يتواجه العدو؛ رجال عظُم أمر الله في قلوبهم، فهانت عليهم الدنيا. كان الكاتب يكرر معاني الثبات والنية واليقين، حتى آخر لحظة من حياته.
استُشهد محمد زكي حمد في 12 يوليو 2025، وقد قضى حياته من محراب الصلاة إلى مجالس العلم، ومن ساحة الجهاد إلى ما يرجو أن يكون طريقه إلى جنة الرحمن. كان يقول:
«إنّ المنة التي أعدها الله للمجاهدين كفيلة بأن نترك من أجلها كلّ نعيم الدنيا»، ويضيف:
«هذه الدنيا ستفنى، وسنفرح في جنة الله، ونتعانق، ونبارك لبعضنا أنّ الله قبل صبرنا».

