مجتمع
قبل 15 عاماً أو يزيد، كنت أقف على السواقي الضخمة المملوكة للجمعية التعاونية الفلاحية في قريتي بريف دير الزور، أتأمل مجرى الفرات وأتساءل: إلى متى يمكن لنهر الفرات أن يمد هذا الشريط الضيق من الأراضي الزراعية بالمياه اللازمة للحياة؟ وإلى متى ستبقى تجربة الجمعيات التعاونية الفلاحية حية رغم فشلها الذريع كنمطٍ اقتصادي وتجربة عملٍ جماعي، غارقة في الفساد والترهل؟
من هذا النهر الجليل، كانت الجمعيات الفلاحية الممتدة على ضفتيه تعمل بانتظامٍ لري الأراضي. كان القمح والقطن هما المحصولين الرئيسيين؛ الأول للموسم الشتوي، والثاني للصيفي، عاصرت هذه المضخات العملاقة السنوات الذهبية لإنتاج المحصولين (الاستراتيجيين)، ومحصولين تغنّى فيهما نظام الأسد لسنواتٍ طويلة كدليلٍ مؤكد على نجاحه في تحقيق الاكتفاء الذاتي والذي يشكّل المناظِر الاقتصادية لعزلة سوريا السياسية.
كان الشيّبُ من أهل القرية، أولئك المسنون الذين نسميهم “العجز” بلهجتنا نحن أبناء أرياف شرق وشمال سوريا، يحدثوننا دوماً عن اتساع النهر وغزارته قبل 4 عقود أو أكثر. كانوا يقفون على بُعد كيلومترات من حافة الماء يشيرون بأيديهم إلى الأرض ويقولون: “هنا كانت تصل الشريعة”، أي مياه الفرات.
يحكون أنّ منظر النهر كان يلقي الخوف في قلب الناظر: صفحة زرقاء تمتد بين السماء والأرض، أمواج عالية تضرب ضفتيه، الشامية والجزيرة. لكن ذلك الجيل اضمحل تباعاً، حتى اختفى آخرهم مع بدايات الثورة.
ماتوا بصمت، وسط ضجيج الحرب والقصف، لم يلتفت أحد كثيراً لرحيلهم، فقد أصبح الموت آنذاك حدثاً يومياً يشمل الصغار والكبار والعائلات بأكملها. ومع ذلك، بدا أولئك العجزة محظوظين إذ عاشوا حياة طويلة، شهدوا فيها عنفوان الفرات قبل أن يخبو هديره ويصير كما يقولون ساخرين: “صار ساقية الآن”، تعبير بسيط لكنّه يلخص الفرق الهائل بين الأمس واليوم.
الشريط على ضفتي النهر يزداد ازدحاماً بالبناء، والأسمنت يقضم الأرض الزراعية كوحشٍ لا يشبع. قريباً جداً، قد يصبح وادي الفرات مسطحاً إسمنتياً قاحلاً لا يحمل من الزراعة سوى الذكرى. ومع الازدياد السكاني الكبير في المنطقة، قبل الثورة وبعدها، ظل السؤال يلاحقني: إلى متى سيبقى الفرات رافداً للحياة في سوريا؟
قبل قيام الجمعيات، كانت المهمة تقع على عاتق ما يُسمّى بـ”الوكالات”، والوكيل عادةً من كبار الملاك الذين يمتلكون مضخات ديزل لري الأراضي. هؤلاء كانوا في الغالب من عائلاتٍ ثرية وذات نفوذ في دير الزور، ريفاً ومدينةً، وقد تحالفوا مع شيوخ العشائر الذين امتلكوا أراضي واسعة.
ذلك التحالف بين أعيان المدينة وشيوخ العشائر شكّل طبقةً نافذة في الريف الديري لعقودٍ طويلة، من أواخر العهد العثماني إلى فترة الانتداب الفرنسي ثمّ الاستقلال والانقلابات المتتالية. لكن دورهم بدأ يضمحل مع وصول أبناء الفلاحين إلى السلطة عبر البعث والانقلابات العسكرية، حين لم تعد السلطة بحاجة لبناء تحالفات معهم. عندها صعدت الجمعيات الفلاحية لتحلّ محلّهم، خصوصاً مع زخم قوانين الإصلاح الزراعي والتأميم منذ الوحدة السورية المصرية وحتى استقرار حكم حافظ الأسد.
جيل جدي عاش تلك الفترة الباكرة قبل أن تكتسب التحوّلات الاشتراكية والعسكرية شكلها القسري، وكانت القرية آنذاك نائية، يسكنها عدد قليل من العائلات لا يتجاوز عدد أصابع اليد، تتوزّع على مساحاتٍ واسعة من الأراضي الخصبة. لم تكن هناك سيارات، والتعليم لم يتعدَّ مبادئ القراءة والكتابة والحساب على يد شيخ كتاتيب كما كانوا يسمونه في المدن. لم يكن سدّ الفرات قد بُني بعد، وكانت الحياة بسيطة، والقرية منغلقة على نفسها، بلا تواصل مع المدن ولا هجرة إلى الخارج.
أمّا جيل أبي فقد واكب ذروة تألق الجمعية الفلاحية وبدايات الإصلاح الزراعي والتأميم. ازدهرت الزراعة، وتجاوز الفلاحون حدود الكفاف إلى وفرةٍ نسبية. اشتروا الجرارات والسيارات، ووسّعوا أراضيهم، وكان الإنتاج الزراعي كافياً ليغدو الفلاح قادراً على الحلم.
لكن مع هذا الازدهار، انفجرت القنبلة الديموغرافية. تضاعف عدد سكان القرية مئات المرات خلال 3 عقود. شهد هذا الجيل ثلوج دير الزور النادرة في الثمانينيات، وسنواتٍ قاسية من الجفاف الطويل، وأخرى قليلة جادت بالخيرات.
أمّا الجيل الذي جاء بعدهم، فقد وجد مدارس وجمعيات فلاحية وخدمة عسكرية إلزامية وفرص عمل في الخليج ولبنان، وهي أشياء بدت عادية لهم آنذاك. فيما كان آباؤهم ممتنين للحاضر والماضي القريب، عصاميين، معتدين بأنفسهم، يقدرون التعليم والانضباط، يتذكرون أيامهم الصعبة من دون كهرباء ولا صحة ولا تعليم، ويقولون “الحياة تغيرت، كنا نمشي مسافات شاسعة على الأقدام، لم تكن هناك سيارات، كنّا نحرث الأرض بأيدينا قبل أن تتوفر الجرارات، وكنّا نأكل صنفاً أو صنفين من الطعام فقط طوال الشتاء”.
في تلك العقود، كان الفرات يفيض كلّ عام، يغيّر مجراه كلّ بضع سنوات، يجتاح المنازل ويجبر الناس على النزوح نحو المرتفعات. أتذكر أمي تحكي عن فيضانٍ كبير صعدت فيه بمروحية أرسلتها الدولة للبحث عن محاصرين، كانت تلك المرة الأولى التي ترى فيها مروحية، مشهد بدا سحرياً لقرويين أميين لم يعرفوا الطيران في السماء إلا إذا كنت طيراً وغيماً.
مرّت مجزرة حماة عام 1982 ولم يعرف عنها الأهالي سوى شذرات من أحاديث الجنود الشهود على المجزرة أو كانوا على مقربة منها. مات حافظ الأسد وتولى ابنه بشار الحكم في وراثة فريدة لجمهوريةٍ جامدة. لم يتغيّر شيء في القرية، سوى ازدياد السكان وتراجع الإنتاج وترهل الجمعية التعاونية. ثمّ غزا الأمريكيون العراق عام 2003، واغتيل الحريري عام 2005، واشتعلت حرب تموز 2006 بين إسرائيل وحزب الله، بموازة حرب طائفية في العراق، كلّ ذلك أشعل جلسات الشتاء والصيف في مضافات القرية بالحديث عن مخاوف وقلق عن دور إيراني متزايد ومشبوه في الأقليم.
في 2008، ضرب الجفاف الجزيرة السورية، وبدأت موجة نزوح نحو دمشق وشمال غرب سوريا. عملوا في زراعة الخضار كعمال موسميين يعيشون في الخيام، بعد أن تركوا بيوتهم وحياتهم السابقة خلفهم، وفي تلك الفترة، جاء جامع جامع إلى دير الزور رئيساً لأحد أهم فروع الأمن، بصلاحيات واسعة تمتدّ على المحافظات الشرقية. استقبل شيوخ العشائر، وبدأت السلطة تهمّش اتحاد الفلاحين وجمعياته. كلّ شيءٍ كان يجفّ، الأرض والبشر والهياكل القديمة الرثة استعداداً لحريق 2011 الكبير، في القرية الصغيرة كانت الأمور تتهيأ للتحوّل أيضاً، تتفاعل مع المحيط الملتهب، الأخبار تأتي وتذهب، أخبار محلية وإقليمية ودولية، جفاف ونزوح الجيران وكلام كبير عن تغيير مناخي، تتفاعل كلّ هذه المواضيع على إبريق شاي وعدة كؤوس بلورية صغيرة، في الحقل أو بجانب البيوت.
طوال 3 عقود، صعد رؤساء الجمعيات الفلاحية وأعضاء الاتحاد في السلم الاجتماعي حتى صاروا أبرز شخصيات الريف، بحكم صلتهم بالسلطة، مثّلوا واجهتها بين الفلاحين، وجسدوا فسادها وبيروقراطيتها الثقيلة، وشكلوا صورة رثة ومنفرة عن الطبقة الفلاحية، على طريقة عمل النقابات والتعاونيات في الدول الاشتراكية الأخرى.
في البداية، رأى الفلاحون في السلطة نصيراً لهم ضد عسف الملاّك الكبار، لكن مع مرور الوقت، تحوّلت الجمعيات إلى عبءٍ جديد على أكتافهم. البذور الرديئة، الأسمدة الفاسدة، والفساد الصارخ لرؤساء الجمعيات ومحاسبيها، جعلت هذه المؤسسات جسراً للنهب لا للعون، وبدا اتحاد فلاحي سوريا ممثلاً للنظام في وسط الفلاحين أكثر منه ممثلاً لهّموم الفلاح وتعبه وشقائه.
واليوم، إذا ما دخلت إلى موقع اتحاد فلاحي سوريا على الإنترنت، ستجده خاوياً. آخر مادة منشورة تعود إلى تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، عن تربية دودة القز! لا ذكر لمستقبل الاتحاد بعد سقوط النظام، ولا لما تبقّى من المنظمات الشعبية التي كانت أشبه بأدوات بيد نظام الأسد لعقود طويلة.
تعاقب على رئاسة الجمعية الفلاحية في قريتي عدة أشخاص، وخلال عقود مرّت موجات من الجفاف، وجفاف أكبر في الأمل. ومع ذلك، بقيت الجمعية شاهدةً على تحولاتٍ قاسية في مجتمع الريف الفراتي، تراجع الفرات، بدأت هجرة العمالة واضحة في لبنان ودول الخليج العربي، تعمق الفقر وتراجعت موجة التعليم وتمدين الريف،
كلّ ذلك جاء بعد نهضةٍ زراعية جزئية شملت القمح والقطن، فورة تعليمية أخرجت جيلاً من الأطباء والمهندسين وضباط الجيش، أول دفعة من المتعلمين من أبناء الفلاحين الذين كسروا احتكار العشائر والأعيان للتعليم.
وإذا كان فلاحو قريتي قد نجحوا، بشقّ الأنفس، في إعادة تمويل جمعيتهم بعد أن نُهبت مراراً في العقد الماضي، فإنّ إعادة تأهيل هذا الجيل تحتاج عقوداً من الزمن، وإذا كانت هذه الجمعيات نجت من النهب والفساد والتدمير أثناء سنوات الثورة، فإن فرص استمرارها أصبحت موضع شك، مع تبدل السياسة الاقتصادية نحو الانفتاح بدل العزلة والتكامل مع الإقليم بدل الاكتفاء الذاتي، لتنتهي حقبة شعارات كانت أصيلة وأساسية في عمل هذه الجمعيات.
أجيال متعاقبة مرّت على قرية صغيرة، لا تكاد تُرى على خريطة سوريا، لكنّها غنية بما شهدته من تبدلات. الجيل الجديد اليوم نشأ في سوريا المحطّمة، في ظلّ حربٍ طويلة وخرابٍ مادي وروحي. جيل بلا تعليم كافٍ، ولا أمل واضح، يبدو ملغوماً، يحتاج إلى رعايةٍ وصبرٍ طويل.
ربما سيجلس أحد أطفال اليوم بعد 30 عاماً، على ضفاف نهرٍ هزيل أو بحيرة، يروي لمن يأتي بعده سيرة جيلنا نحن، كما روى لنا أجدادنا سيرة الفرات حين كان عظيماً وزاخراً، يروي عن نظام قتل شعبه، عن مدن دُمرت وعن مفقودين بالآلاف، يروي ما كان يراه في طفولة عاشها في ظل سوريا محطمة، والتي تشكّل جزءاً وازناً من ذاكرته.



