مدونات

إلى فرانز كافكا: ما يزال الليل هنا ليلا أكثر من اللازم

يوليو 2, 2024

إلى فرانز كافكا: ما يزال الليل هنا ليلا أكثر من اللازم

عزيزي فرانز كافكا؛ لقد مرت سنوات طويلة مذ قرأت لك لأول مرة، سنوات منذ تلك المقدمة الصادمة التي بدأت بها رواية المسخ: “استيقظ جريجور سامسا ذات صباح بعد أحلام مزعجة، فوجد نفسه قد تحول في فراشِه إلي حشرة هائلة الحجم”. منذ ذلك الحين وأنا أضعها في أعلى قائمة أفضل الافتتاحيات التي قرأتُها، بل وأحملها بداخلي لأفسر بها هذا السلوك البشري الذي يميل لتقدير الناس بناء على ما لديهم.

 

كثيرة هي الجمل التي تشبهنا، بل وتختصر لنا حياتنا، لكن هذه الجملة بالذات سقطت ثقيلة فوق قلبي، إنها تفسير مرير لواقعنا في مجتمعات مادية تنظر إلى جيب المرء قبل أن تنظر إلى شخصه. كان من الصعب حينذاك أن أستوعب تلك الحقيقة التي كنتَ ترمي إليها: الإنسان بما يملكه، لا بما يكونه. إنها خلاصة كل الأشياء التي تحكم علاقاتنا، ويؤسفني حقا أن أخبرك بأن الجنون اليوم آخذ في التوسع، لأن المعايير صارت مادية أكثر، والعالم صار فُرجويا، حتى إن التعاطي مع الأدب والفن في عالم اليوم صار ضربا من ضروب الجنون.

 

 عزيزي فرانز… لقد عرفت عنك هوسك بكتابة الرسائل، ودائما تذكرني بشخص أعرفه جيدا، إنه على الأرجح يكتب إليك الآن! وكم كنتُ أتوق لاكتشاف العاشق الذي يقف وراء كل هذه السوداوية، الشاب الذي لم يدفعه حبه في كل مرة إلا لأن يكون خاطبا لا أكثر، وذلك لأسباب تتعلق بمخاوفه الخاصة وتردده المزمن في كل ما يتعلق بالمستقبل. كتبتَ أولا إلى فيليس باور التي أغرقتَها بأزيد من 342 رسالة و145 بطاقة بريدية. وحين خطبتها أول مرة تراجعت وفسخت الخطوبة، قبل أن تكرر ذات الفعلين: الخطبة والفسخ للمرة الثانية، مع قطع العلاقة بشكل نهائي بعد خمسة أعوام من الحب.

 

 

فيليس باور لم تحتفظ برسائلك إلى الأبد، بل باعتها لدار نشر، قبل أن تباع في مزاد علني بنيويورك سنة 1987 بمبلغ ستمائة وستين ألف دولار! تخيل!! في الحقيقة حين يتعلق الأمر بشيء كهذا، لا أعرف كيف يمكنني أن أعبر عن رأيي، فمن جهة أعتبر بيع الرسائل عملا أنانيا يحصر قيمتها في ما هو مادي، ومن جهة أتساءل هل كانت ستصل إلينا لو احتفظت بها إلى الأبد؟ ومن جهة ثالثة أتساءل عن مدى مشروعية إطلاع طرف ثالث على شيء يفترض أن يكون شأنا خاصا بين شخصين! ثم كتبتَ إلى صديقتها غريت بلوخ حين عجزتَ عن الاستمرار في الكتابة إلى فيليس، فعلت ذلك لتبين لها أنك لا تستطيع الإقدام على الزواج من صديقتها لأسباب فصّلتها أكثر في رسالتك الطويلة إلى الوالد، لكن لمَ استمرت رسائلك الموجهة إليها بعد ذلك؟ هل كان هذا غرضك الوحيد من رسائلك التي قاربت السبعين؟ فيليس باور لم تكن ضحيتك الوحيدة في مسألة إلغاء الخطبة، فيولي فوريتسيك هي الأخرى اكتوت بذات النيران حين خطبتَها وحددت معها موعد الزفاف، لتعود بعد ذلك لإلغاء كل شيء.

 

 

أما رسائلك إلى ميلينا ييسِنسكا، فهي الأكثر شهرة بيننا، حتى إن هناك اليوم من يوقع الرسائل باسمك ليمرر شيئا لم تكتبه لها أبدا. ميلينا التي كانت مختلفة عن الأخريات، لأنها لعبت معك نفس الدور الذي كنتَ تلعبه مع فيليس: المعذِّب. «ميلينا، أنت بالنسبة لي لست امرأة، أنت فتاة، فتاة لم أر مثلها أبدا من قبل، لست أظن لهذا أنني سأجرؤ على أن أقدم لك يدي أيتها الفتاة، تلك اليد الملوثة، والمعروقة، المهتزة، المترددة، التي تتناوبها السخونة والبرودة في كتابة الرسائل..» لقد مكنتني رسائلك إلى ميلينا من زاوية أخرى للنظر إلى شخصيتك، كونها أول ما اطلعت عليه من بين رسائلك، ولأنني أعرف أجواء رواياتك الكابوسية والتشاؤمية، فإنني وقفت مشدوها وأنا أقرأ لكافكا العاشق المريض الذي يراسل ميلينا.. الشابة المتزوجة! كافكا الذي يكتب ككاتب رومانسي ! كل هذا قبل أن ينتهي بك الأمر، قبل وفاتك بفترة قليلة، مع دورا ديامانت التي كتبت لها: “أنتِ منقذتي مع أنّني فقدتُ الإيمان بالإنقاذ منذُ زمنٍ طويل”.

 

 

 فرانز العزيز… لقد كانت هذه المغامرات العاطفية موضوعا لرواية أصدرَتها الكاتبة الفرنسية جاكلين راؤول دوفال بعد عقود من رحيلك، رواية بديعة تحت عنوان «كافكا، الخاطب الأبدي».. بديعة ليس فقط لأنها سردية روائية لحياة واحد من أشهر الأدباء في العالم، بل لأن الكاتبة نجحت إلى حد كبير في تقديم عمل يرسم ملامحك بكثير من الحِرفية، واصفة هشاشتك ومواطن ضعفك وتقلبات مشاعرك وترددك المستمر في حبٍّ تريده ولا تريده، معتمدة في ذلك على رسائلك ومذكراتك. تلك الرسائل التي أعتقد أنها كانت غاية في حد ذاتها، وأن النساء في حياتك كنّ وسيلة لإشباع شغفك بكتابتها لا أكثر… إنها رواية تؤكد المؤكد: كافكا دائما مبهر.. سواء قرأت له أو قرأت عنه. 

 

 

كتابة الرسائل، تعني أن تعري نفسكَ أمام الأشباح، و هو شيء لطالما كانوا ينتظرونه بفارغ الصبر، إن إمكانية كتابة رسائل بسهولة لا بد أن تكون قد جلبت الخراب والدمار للنفوس في هذا العالم. كتابة الرسائل في الواقع هو بمثابة جماع مع الأرواح، وهذا لا يعني روح المرسل إليه فحسب بل الأشخاص الذين يملكون روحًا أيضًا، وهذا يتطور سرًا في الرسالة التي يكتبها المرء.» عزيزي كافكا.

 

 

إن إحدى الخلاصات التي يخرج بها القارئ من القراءة لك وعنك، هي أن جل نتاجك الأدبي نابع من قسوة والدك هرمان، وهذا ما اعترفتَ به بنفسك. ومن سوء حظه أنه لم ينجب شخصا عاديا، وإلا كان ليكون أبا مستبدا مجهولا كغيره من المستبدين الذين يكتظ بهم العالم… لكنك جعلت منه شخصا يعرفه كل من قرأ نصوصك، بل ويعرف تأثيره على حياتك ودوره في أن تصبح كما أنت عليه. “كانت كتاباتي تدور حولك، والحق كنت أشكو فيها ما كنت لا أستطيع أن أشكوه على صدرك”.  حين قرأت تلك الرسالة التي كتبتها إليه في آثارك الكاملة، استوقفتني الكثير من الأحداث التي كان لها تأثير كبير على شخصيتك، وساهمت في تشكل هذا الكافكا الذي نعرفه بتردده وخوفه ومشاعر الغربة التي يحملها بداخله… كافكا الذي يبرع في صياغة جمل دقيقة تعبر عن المأساة الإنسانية بكاملها.

 

 

فرانز العزيز.. إن كتاباتك تحاكي حياة الناس الغرباء عن هذا العالم، وهي بدون شك تعكس حياة صاحبها الذي اعتبر الحياة ورطة، إنها كذلك منذ القِدم، شيء يشبه العقوبة، مليئة بالغرائبية والقلق والخوف، ومليئة بالحقد والضغينة… وإلى اليوم، ما يزال الليل هنا ليلا أكثر من اللازم كما قلتَ.

 

 

 

*فرانس كافكا، كاتب من مواليد 3 يوليو 1883 في براغ لعائلة ألمانية من أصول يهودية، كتب طوال حياته مئات الرسائل للعائلة والأصدقاء المقربين، أشهرها: رسالته لأبيه الذي كانت تربطه به علاقة متوترة وسيئة، ورسائله إلى ميلينا. توفي عام 1924 عن عمر يناهز الأربعين بسبب مرض السل. أعماله الكثيرة تشمل رسائل إلى ميلينا، طبيب ريفي، التحول أو المسخ، القلعة، رسائل إلى والدي، الحكم، أمريكا، في مستعمرة العقاب، أمام القانون… نُشِرت تلك الأعمال بعد وفاته على يد صديقه المقرب ماكس برود، الذي لم يستجب لطلب كافكا بإحراق كتبه.

شارك

مقالات ذات صلة