مدونات

سوريا بين التهويل الرقمي والواقع 

نوفمبر 16, 2025

سوريا بين التهويل الرقمي والواقع 

 

بعد سقوط النظام ودخول سوريا مرحلة انتقالية دقيقة، أصبح السوريون يعيشون في عالمين مختلفين: عالم حقيقي على الأرض يتغير ببطء، وعالم رقمي سريع ومضطرب يعيد إنتاج الأحداث بصورة مضخّمة ومشوّهة أحياناً. لقد تحوّلت مواقع التواصل من وسيلةٍ للتواصل إلى مساحةٍ تُصنع من خلالها السرديات وتتشكّل الآراء وتتحرك العواطف الجماعية. وفي كثيرٍ من الأحيان، أصبحت الصورة المنتشرة على المنصات أقوى وأكثر تأثيراً من الحدث الحقيقي على الأرض.

مواقع التواصل والتهويل الرقمي: فجوة بين الحدث وتمثيله.

في سوريا اليوم، أحداث كثيرة تبدأ من نزاع بسيط أو مشكلة محلية ذات نطاق ضيق، لكن بمجرد نشرها على مواقع التواصل تتحوّل إلى قضية عامة. يعود ذلك إلى سرعة انتشار المعلومات، وإلى طبيعة المنصّات التي تعتمد على الإثارة وتضخيم الاهتمام، ما يجعل الرواية الأولى وإن كانت ناقصة أو غير دقيقة هي الرواية الأكثر انتشاراً وتأثيراً.

تؤدي العناوين المثيرة والمقاطع المجتزأة إلى خلق صورة مضخمة لما يجري، ويضيف التفاعل المتسلسل من تعليقاتٍ ومشاركات مزيداً من التوتر، فيُعاد إنتاج الحدث مراراً رغم محدوديته في الواقع. ومع الوقت، يتكون رأي عام كامل مبني على تأويلات لا علاقة لها في كثير من الأحيان بسياق الحادثة الحقيقي. وهكذا تتسع الفجوة بين العالمين: عالم رقمي قلِق ومضخم، وعالم ميداني أكثر هدوءاً ممّا يبدو عبر الشاشات.

 

الأثر القانوني والاجتماعي: تداخل يعيد تشكيل المجتمع.

المرحلة الانتقالية في سوريا أعادت صياغة العلاقة بين القانون والمجتمع، إذ لم يعد بالإمكان الفصل بينهما في ظلّ سيطرة مواقع التواصل على تداول الأخبار وتوجيه الرأي العام. فغياب المؤسسات القضائية وعدم الاستجابة عزّز اعتماد الناس على المنصات كمنبر للشكوى والإدلاء بالشهادات. لكن هذا الاستخدام خلق ظاهرة “العدالة الرقمية”، حيث يصبح الشخص متهماً أمام الجمهور قبل أن يصدر أيّ حكم قانوني، وقد يتعرض لتشهير واسع النطاق بسبب معلومات غير دقيقة أو روايات مشوهة.

أمّا اجتماعياً، فقد أدى هذا التداخل إلى تفاقم الانقسامات وزيادة الحساسية بين المكوّنات المختلفة. فالحدث الذي كان يُعالج سابقاً ضمن نطاقه العائلي أو المحلي أصبح يُعرض على الملأ، فتتوسع دائرته ويرتفع مستواه من مشكلة بين أفراد إلى قضية تمس “القيم” و“الكرامة” و“الهويّة”. ومع انتشار المحتوى بصيغته العاطفية والمشحونة، تتزايد مشاعر الغضب والخوف، ويصبح المجتمع في حالة توتر دائم لا تعكسه حقيقة الواقع على الأرض لقد خلق هذا التداخل واقعاً جديداً يعيش فيه الفرد بين سلطة القانون وسلطة الرأي العام الرقمي، وغالباً ما تكون تأثيرات السلطة الثانية أشد قسوة وأطول أمداً

 

الأثر الأمني والحقوقي: ضغط المعلومات على هشاشة المرحلة .

تُعد الجوانب الأمنية والحقوقية من أكثر المجالات تأثراً بمواقع التواصل في المرحلة الانتقالية، إذ تنعكس هشاشة الوضع الأمني مباشرة على سرعة انتشار الشائعات ودرجة الحساسية تجاهها. ففي سياقٍ غير مستقر، يمكن لمقطع فيديو ناقص أو منشور غير دقيق أن يثير حالة من الهلع الجماعي، ويخلق تصوراً بوجود تهديدات واسعة حتى لو كان الحدث في الواقع محدوداً جداً.

تواجه الأجهزة الأمنية تحدياً حقيقياً لأنّها مطالبة بالتعامل مع الحدث الواقعي ومع موجة التفاعل الرقمي في الوقت نفسه. وقد تُضطر أحياناً لاتخاذ خطوات عاجلة لتهدئة الرأي العام، حتى لو لم تكن هناك ضرورة أمنية حقيقية لذلك، ما يفتح الباب لأخطاء وقرارات غير مدروسة. وفي المقابل، فإنّ تجاهل ما يجري على المنصّات قد يؤدي إلى فقدان ثقة الناس، ممّا يزيد من التوتر.

أمّا من الناحية الحقوقية، فإنّ مواقع التواصل تشكّل تهديداً آخر يتمثل في انتهاك خصوصية الأفراد، والتشهير، ونشر المعلومات الحساسة دون إذن، إضافة إلى استخدام الضغط الشعبي لإجبار أفراد على الإدلاء باعترافات أو بيانات علنية. وهكذا تظهر “محاكم إلكترونية” تحكم على الأشخاص دون أي ضمانات قانونية أو معايير عدالة. 

إنّ اختلاط الأمن بالحقوق على هذا النحو يجعل المرحلة الانتقالية أكثر هشاشة، ويجعل إدارة المعلومات جزءاً أساسياً من إدارة الأمن والاستقرار.

تجارب دول أخرى في الفترات الانتقالية: دروس للسياق السوري.

شهدت دول مثل تونس وليبيا ومصر وأوكرانيا ظروفاً مشابهة نوعاً ما لظروف سوريا اليوم إلا أنّ التجربة السورية في هذا الشأن فريدة حقاً، وقد أدت فيها مواقع التواصل الدور ذاته تقريباً. وفي تونس، رغم دورها المهم في كشف الفساد، فإنّها ساهمت في تضخيم الأحداث الصغيرة وصنع صورة توحي بفوضى أكبر مما كان يجري في الواقع. وفي ليبيا، أدى غياب المؤسسات إلى اعتماد الناس بشكل كامل على المنصات كمصدرٍ للمعلومات، ما جعل الشائعات تنتشر كحقائق وتعمّقت الانقسامات. أمّا مصر، فقد تأثر المزاج العام كثيراً بالمحتوى الرقمي، حتى أصبحت بعض الأحداث الاجتماعية العادية وقوداً لتوتر سياسي متكرر. وفي أوكرانيا، تحوّلت مواقع التواصل إلى جزءٍ من الحرب نفسها، إذ صنعت روايات متضاربة وضخّمت الأحداث بما أسهم في توسيع الهوة بين المكوّنات الداخلية.

هذه التجارب تظهر أنّ التضخيم الرقمي ليس مجرّد ظاهرة محلية، بل سلوك متكرر في كلّ مرحلةٍ انتقالية، حيث تتفوق سرعة المعلومات على قدرة الدولة والمجتمع على استيعابها. وتكشف أيضاً أنّ الحدّ من أثر مواقع التواصل لا يأتي عبر منعها، بل عبر بناء مؤسسات إعلامية فعالة، وتعزيز الثقة بين المواطنين والجهات الرسمية، ونشر ثقافة الوعي الرقمي التي تساعد الناس على تقييم الأحداث بدقة.

وبالنسبة لسوريا، فإنّ أهم ما يمكن تعلمه هو أنّ التعامل مع مواقع التواصل يجب أن يبدأ من تقوية الواقع نفسه. فعندما تكون المؤسسات قوية، وتتدفق المعلومات بشكلٍ شفاف ومنظم، تقل قدرة التضخيم على خلق توتر أو فوضى. وعندما يملك المجتمع وعياً نقدياً تجاه المحتوى الرقمي، يصبح أقل عرضة للانجرار وراء السرديات المتضاربة.

 

صورة سوريا في وعي المغتربين والمتابعين من الخارج: واقع يُصنع عبر الشاشات. 

لا يقتصر تأثير مواقع التواصل على الصورة الداخلية لسوريا فحسب، بل يمتد إلى وعي شريحة واسعة من السوريين المغتربين والمتابعين العرب والأجانب الذين يعتمدون بشكلٍ شبه كامل على ما يظهر على المنصات لتكوين تصوّرهم عمّا يجري داخل البلد. فالسوريون الذين غادروا البلاد قبل سنوات طويلة، وبعضهم منذ ما قبل الثورة، كانوا في الأصل بعيدين عن تفاصيل الحياة السياسية والاجتماعية، ومع مرور الزمن أصبحت مواقع التواصل بالنسبة لهم المصدر الأول وربما الوحيد لفهم الواقع السوري. وبما أنّ المحتوى المتصدر يعتمد غالباً على الإثارة ويميل إلى التهويل، فإنّ الصورة التي تتكوّن لديهم تكون في الغالب صورة سوداوية ومضخّمة لا تعكس الواقع كما هو.

أمّا المتابعون العرب والأجانب غير المعنيين بالشأن السوري، فيعتمدون بدورهم على ما يصلهم عبر الترندات والمقاطع الأكثر انتشاراً، ما يجعل تصورهم للحياة في سوريا مرتبطاً بسلسلة من الأحداث المتوترة التي لا تمثل دائماً الحالة العامة. وفي ظلّ غياب المعرفة السياقية، يتلقّى هؤلاء الأحداث المجتزأة بوصفها حقائق كاملة، فيظنون أنّ ما يرونه هو الواقع اليومي للسوريين، بينما تكون كثير من تلك الأحداث حالات فردية جرى تضخيمها رقمياً.

 

نحو وعي رقمي يحترم الواقع.

مواقع التواصل ستكون جزءاً أصيلاً من سوريا الجديدة، لكن يجب أن تكون أداةً للتواصل والرقابة الشعبية، لا أداة لصناعة الخوف والانقسام. إنّ تقوية الوعي الرقمي، واحترام المعايير القانونية والحقوقية، وتعزيز الشفافية، هي خطوات ضرورية لضمان ألا يصبح العالم الرقمي مصدراً للفوضى أو الحيرة. وفي مرحلة انتقالية حساسة كهذه، يصبح التوازن بين الحقيقة وما يتم تداوله على المنصات هو مفتاح الانتقال نحو مجتمع مستقر وأكثر انسجاماً مع ذاته.

شارك

مقالات ذات صلة