آراء
منذ سمعت عن صدور كتاب “فخ أخيل.. صدّام حسين والمخابرات الأمريكية” للصحفي الشهير ستيف كول، ترجمة محسن بني سعيد، وأنا أترقب الحصول على هذا الكتاب المفيد. وقد صدرت ترجمته عن دار “نابو” العراقية. وعندما وصل إليَّ الكتاب من مكتبة “عدنان” في شارع المتنبي في بغداد، فَرِحْتُ به لأنه جمع بين المتعة والإفادة، خصوصًا أنّني قرأت كتاب ستيف الأول بعنوان “آل بن لادن” واستفدت منه. وفي ظلال القصة حكايات النفط والمال والإرهاب. طبعة “الشبكة العربية” لكتابه “بن لادن” تتفوق على كتاب “فخ أخيل” الصادر عن “نابو” في جودة الترجمة، وجمال الورق، وحسن الإخراج والتجليد.
ستيف كول صحفي بارع يكتب روايات منسوجة من التاريخ الواقعي. في كتابه “فخ أخيل” حكايات عن عائلة صدّام حسين. فكّرت وأنا أغرق في صفحات هذا الكتاب: لماذا نقرأ الروايات، والواقع حافل بشخصياتٍ درامية وحبكات أعجب من الخيال؟ قصة صدّام تتضمن كلّ هذه العناصر، من تشويق وعناد وصعود وهبوط واستبداد ومشكلات أُسَرية وقصص مخابرات ونهايات درامية بالإعدام.
البدايات في بغداد.
بدأت القصة مع سفر ستيف كول إلى بغداد بمهمة لصالح جريدة “واشنطن بوست” في أكتوبر/تشرين الأول من سنة 2003، أي بعد سبعة أشهُر على غزو العراق الذي قادته أمريكا. كان صدّام حينها متخفيًا وفارًّا من العدالة. التقى ساعتها ستيف مع هاميش كيليب، المحقق البريطاني ضمن مجموعة المسح العراقي، وهي مجموعة عمل متعددة الجنسيات تدعمها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في العراق. تغيرت مهمة مجموعة المسح بغتةً من البحث عن أسلحة الدمار الشامل التي ادّعت أمريكا امتلاك صدّام حسين لها، إلى فرز الحقائق عن الأكاذيب في تاريخ صدّام حسين.
كتاب “فخ أخيل” فِكْرتُه الأساسية أنّه تحقيق مطوّل عن إخفاق الولايات المتحدة الأمريكية في فهم صدّام حسين. ويسجّل الكتاب تاريخ العلاقة بين صدّام وأمريكا في مراحل متعددة، خصوصًا أنّ سجلّ المخابرات الأمريكية في العراق بعد عام 1991 حافل بالإخفاقات والفشل، فقد عُرفت مجموعة العراق داخل المخابرات الأمريكية بأنّها “بيت الألعاب المكسور”، بداعي السخرية من فشلهم في اختراق العراق مخابراتيًّا.
يُلخِّص ستيف كول صراع الولايات المتحدة الأمريكية مع صدّام حسين في أنّه مشبع بألوان التاريخ السياسي: “فساد السلطة، وحماقات الحرب، وأكاذيب الدبلوماسية، وثمن المعارضة، وعبثية الخيلاء. إنّها قصة أخطاء جذور الحكم التي كان من الممكن تفاديها، والتي أودت بِكَمّ هائل من الأرواح، والمعاناة البشرية. نجمت تلك الأخطاء بشأن فهم العدو”.
سأركز في هذه المراجعة على ملف صدّام حسين وعلاقته المضطربة مع المخابرات المركزية. في الكتاب ملفات عديدة أخرى مثل قصة البرنامج النووي العراقي والأسلحة الكيميائية، وكيف قوضت إسرائيل هذا الملف، وهناك أوراق مهمة عن علاقة عراق صدّام حسين مع فرنسا والرئيس جاك شيراك، لكن لنبدأ القصة المعقدة بين الولايات المتحدة الأمريكية وصدّام حسين.
جاسوس يحمل هدايا.
يبدأ ستيف كول جذور قصة المخابرات الأمريكية بلحظةٍ مهمة، في وقتٍ مبكر من مساء السابع والعشرين من يوليو/تموز عام 1982، هبطت طائرة تابعة للمملكة الأردنية في بغداد، حملت على متنها مسافرًا أمريكيًّا واحدًا، اسمه توماس تويتين، ضابط العمليات في وكالة المخابرات الأمريكية. أمضى معظم مدة عمله متخفيًا تحت غطاء دبلوماسي، حمل شهادة الماجستير في الشؤون الدولية من جامعة كولومبيا، شملت اهتماماته الكتب العتيقة، مثل مذكرات الرحلات التي كتبها رحالة القرن التاسع عشر.
حين بلغ الأربعين من العمر، ابيضّ شعره وحاجباه. يستمر ستيف في وصفه الروائي لهذا العميل، وأنّه بدا كأنّه موظف مصرف. خدم تويتين في مهمات متظاهرًا بأنّه دبلوماسي في بنغازي وأكرا ونيودلهي، قبل أن يصبح مدير محطة المخابرات الأمريكية في عمّان بالأردن.
جعله هذا المنصب على اتصال وثيق بحاكم البلد، الملك حسين. كان صديقًا لإدارة رونالد ريغان والمخابرات الأمريكية أيضًا. رحلة تويتين إلى بغداد كانت إحدى هذه العمليات، وأعار الملك حسين المخابرات الأمريكية طائرته الخاصة عن طيب خاطر.
مهمة تويتين التي رسمها البيت الأبيض هي إقناع نظام صدّام بقبول مساعدة المخابرات المركزية الأمريكية في حرب العراق ضد إيران. لو رغب صدّام، فستوفر الوكالة صورًا بالغة السرّية تلتقطها أقمار التجسس الأمريكية بحيث تكشف مواقع القوات الإيرانية في جبهات الحرب لصالح القوات العراقية التي تخوض معارك معها.
أعطى مجلس الأمن القومي الأمريكي تعليمات واضحة للعميل تويتين: ابقَ في العراق قدر ما يتطلب الأمر لإقامة قناة اتصال لتمرير المعلومات، ولا تطلب شيئًا بالمقابل، فهذه هدية أمريكية.
يشير كول إلى أنّ هذا الكرم قد عكس الهلع والخوف في إدارة ريغان من فوز الخميني على صدّام حسين. وقد التزمت أمريكا علنًا سياسة الحياد في الحرب الإيرانية-العراقية، غير أنّ هذا لم يَعُد ممكنًا على ما يبدو، فقد استنتجت المخابرات الأمريكية أنّ «العراق قد خسر الحرب مع إيران جوهريًّا».
اعتقد محللو الوكالة أنّ صور الأقمار الصناعية كشفت أنّ مئة ألف من الجنود الإيرانيين قد احتشدوا بالقرب من الحدود العراقية للهجوم على البصرة، ثاني أكبر مدن العراق، هجوم مباغت لم يتوقعه العراق كلية. لو نجح هذا الهجوم، فقد تحتل القوات الإيرانية البصرة وتواصل تقدمها نحو بغداد لتحقيق هدف آية الله الخميني بالاستبدال بنظام صدّام «نظامًا إسلاميًّا متشددًا»، الأمر الذي حذرت منه وثيقة سرّية من مجلس الاستخبارات القومي.
وقَّع الرئيس ريغان أمرًا تنفيذيًّا بالغ السرّية خاصًّا بالأمن القومي الأمريكي، يخوّل الولايات المتحدة القيام بكل ما هو ضروري وقانوني، مثلما صاغ الأمر أحد كتبة القرار، من أجل منع الخميني من الإطاحة بصدّام، فحكومة شيعية متشددة في بغداد تدعمها طهران ستوسع نطاق الثورة الإيرانية.
الحرب العراقية-الإيرانية.
لم يتوقع صدّام قَطّ أن يخوض حربًا طويلة ضد إيران، ناهيك بخسرانها. في البدء احتلَّت القوات العراقية ما يقارب ستة وعشرين ألف كيلومتر مربع من الأراضي الإيرانية، لكنّها بدلًا من مواصلة التقدم نحو طهران، تموضع جنود صدّام في مواقع يصعب الدفاع عنها. قائدهم العامّ كان هو العائق، سافر صدّام على نحوٍ متواتر إلى الخطوط الأمامية لكي يعطي أوامر مفصّلة عن شؤون مثل كيفية حفر الخنادق. مع بدء الهجوم الإيراني المقابل، تقلص عدد المشاة العراقيين جراء آلاف الوَفَيَات في ميادين المعارك.
بحلول صيف 1982، انخفض حجم الجيش العراقي من 210 آلاف إلى 150 ألف جندي. ضمر جيش إيران أيضًا إثر الخسائر وحملات التطهير التي نُفّذَت في أثناء ثورة الخميني وطالت الضباط الكبار، غير أنّ آيات الله كان بوسعهم الاعتماد على عدد سكان أكبر، وأضافوا إلى قواتهم المحترفة عشرات الآلاف من مجندي ومتطوعي الباسدران الذين كان أغلبهم من المراهقين ممّن هاجموا الخطوط العراقية دون اكتراث أحيانًا، لإزالة حقول الألغام، في نوعٍ من الانتحار عبر القتال مستلهم من الدين.
يستكمل ستيف كول تأريخه لهذه الفترة، ويذكر لجوء القوات العراقية، بناءً على أوامر صدّام، إلى استخدام الغاز في الهجمات على نحو متزايد، فتغطّى ميدان المعركة بسُحُب من السُّمّ الذي سبَّب الوهن والغثيان، وسرعان ما كف صدّام عن الكلام عن دحر الخميني، وأخبر مستشاريه أنّه سيرضى بسلام “يحافظ على سلامة سيادتنا وكرامتنا”، غير أنّ الخميني تعهّد بمواصلة القتال حتى الإطاحة بصدّام، ومحاكمته کمجرم حرب.
اجتمع مساعدو الرئيس الأمريكي ريغان على نحوٍ متكرر في غرفة العمليات في ربيع سنة 1982 لمناقشة ماهية الدعم الذي يمكن أن ينفع بغداد فعليًّا. توريد السلاح إلى العراق لم يكُن هو الجواب على ما يبدو، لم يُعانِ العراق، مقارنة بإيران، من نقصٍ في الدبابات أو الطائرات ذات الجودة العالية. مشكلته الكبرى هي القيادة الضعيفة الناجمة عن طرد صدّام للقادة المحترفين لصالح المبتذلين البعثيين من ذوي المناصب السياسية. وتلك مشكلة لم تستطِع واشنطن حلّها. في النهاية، قر قرار مجلس الأمن القومي على عملية سرّية تقوم بها وكالة المخابرات المركزية لتقديم معلومات دقيقة وآنية لبغداد عن انتشار القطعات الإيرانية، وخططها الحربية.
هذا ما نصَّت عليه وثيقة خيارات مجلس الأمن القومي. كان للقرار أن يميل بالسياسة الأمريكية إلى جانب العراق، وضد إيران، الأمر الذي لم تكُن الإدارة راغبة في الإقرار به علنًا. فهناك مخاطرة تتمثّل في كشف الإدارة الأمريكية وهي تمرر خرائط الأقمار الصناعية إلى العراق، الأمر الذي كان له أن يُغضِب إيران، غير أن تشاطر المعلومات مع بغداد قد يتمتع بأثر مباشر في الحرب.
مؤامرة معلنة وفضيحة إيران كونترا.
أصرّ صدّام حسين على اعتقاده بأنّ الوكالة التجسّسية كانت تقوم بلعبةٍ قذرة، استمر في الاعتقاد بأنّ وكالة المخابرات المركزية لديها يد خفية في المؤامرات الجيوسياسية ضده. كان تخيُّله أنّها مؤامرات تعاونت فيها أمريكا مع إيران وإسرائيل. طمأن الدبلوماسيون الأمريكيون العراقَ على نحوٍ متواصل بأنّ الولايات المتحدة كانت تحاول جادة للحيلولة دون حصول إيران على الأسلحة، غير أنّ صدّام -كما يكشف ستيف كول مِن مَحاضر اجتماعاته- انتابه الشك بأنّ واشنطن كانت تسمح لإسرائيل بتوريد الأسلحة إلى نظام آية الله الخميني.
الدليل على هذا الحدس بقي منقوصًا، لكن صدّام بدا أنّه يظنّ أنّ الأمريكان خونة بالفطرة، وأنّهم والحال هذه يقدمون مساعدة سرّية لكلّ من بغداد وطهران كجزءٍ من مخططٍ لإطالة أمد الحرب. عكَس تفكير صدّام اعتقادًا شائعًا بأنّ الأمريكان نصّبوا آية الله الخميني في السلطة لتكون لهم اليد الطولى في المنطقة.
كان صدّام على حق في شعوره بوجود مؤامرة سرية، أكثر بكثير ممّا كان يعرف، ففي أوائل نوفمبر/تشرين الثاني سنة 1986، نشرت مجلة لبنانية قصة مفاجئة تقول إنّ إدارة ريغان كانت تبيع أسلحة إلى إيران الخميني، بالتعاون مع إسرائيل، لكي تؤمّن على ما يبدو إطلاق سراح رهائن أمريكيين احتجزتهم أذرع إيرانية في لبنان. ولاحقًا، في مساء الخامس والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني، في واشنطن العاصمة، أدلى المدعي العامّ أدوين ميس باعتراف صادم، مفاده أنّ قصة المجلة ليست صحيحة فقط، بل وفيها منعطف غريب، ألا وهو أنّ البيت الأبيض استخدم أرباح مبيعات الأسلحة لنظام الخميني لكى يمرّر المال إلى المتمردين المعادين لحكومة نيكاراغوا المعروفين باسم كونترا، في خرقٍ على ما يبدو للقانون الأمريكي.
يوضح الكاتب بيتر فرانكوبان في كتابه المهم “طريق الحرير” تفاصيل هذه الصفقة، فقد بدأت الولايات المتحدة، حرصًا منها على توطيد العلاقة مع إيران، في شحن الأسلحة إلى طهران، في انتهاك قانوني لحظرها، بل وفي تعارض مع ضغطها على الحكومات الأجنبية بعدم بيع السلاح لطهران كذلك. وعارض بعض المسؤولين الأمريكيين هذا التطور، وعلى رأسهم وزير الخارجية جورج شولتز.
وأُرسلت الشحنة الأولى المكونة من 100 قطعة من نظام صاروخي موجَّه بالأنابيب، ومتعقب بصريًّا، وموجَّه سلكيًّا من طراز تاو(TOWs)، في صيف عام 1985، وشحنت الأسلحة عبر الوسيط الإسرائيلي الذي أبدى حرصًا على بناء روابط مع طهران. هذا دفع إلى التفكير في المفارقة الخطيرة لسياسة إيران، ففي أوائل القرن الحادي والعشرين كان القادة الإيرانيون يدعون -مرارًا وتكرارًا- إلى محو إسرائيل من الخريطة، فكيف يتعاونون معها؟
تعود حماسة إسرائيل للمشاركة في الصفقة لصالح إيران إلى رغبتها في إبقاء العراق في وضع يُجبَر فيه على تركيز انتباهه بقوة على جارته الشرقية، بدلًا من التفكير في اتخاذ إجراءات أخرى في مكان آخر ضد إسرائيل. ومع ذلك، فقد كانت هناك حساسيات كبيرة في ما يتعلق بالترتيبات مع إيران، فقد تضمّن الاقتراح الأمريكي شحن إسرائيل لذخائر ومُعَدّات أمريكية إلى طهران، قبل أن تعوّضها واشنطن. ونتيجة لذلك، طلبت الحكومة الإسرائيلية تأكيدًا بأنّ المخطط قد صُدِّق عليه من أعلى مستوى في الولايات المتحدة. وكان لها ما أرادت. والحقّ أنّ الخطة برمّتها كانت تحظى بالموافقة المباشرة والشخصية من الرئيس ريغان نفسه.
هكذا صدَق حدس صدّام حسين بكشف مسألة إيران كونترا وشعوره بوجود مؤامرة عليه، أمّا كيف أكملت الولايات المتحدة علاقتها مع صدّام، فهذا ما سنعرفه في الحلقات القادمة عن سيرة صدّام وأمريكا.





