فنون
الفيلم الآخر هو “Sunset Boulevard” أو “جادة سانست”، للمخرج العظيم “بيلي وايلدر”. الفيلم ليس هجومًا على هوليوود، ولا هو رسالة حب أيضًا. إنه يُظهر هوليوود وعالم الأفلام على حقيقته، حين يكون سكّان ذلك العالم مثل السلع، ويمكن التخلص منهم واستبدالهم كيفما يشاءون وفي أي وقت.
في بادئ الأمر يبدو الفيلم كما لو أنه يدور في أرض خيالية، حيث القصر المعزول، كالذي يجده والد “بيل” في فيلم “Beauty and The Beast“، أو قصر السيدة المخبولة “هافيشام” الذي يدخل إليه “بيب” في رواية “Great Expectations“، ولكنه شيئًا فشيئًا يتحول إلى كابوس مرعب. البطل هنا حين يجد قصرًا في جادة سانست ويدخل إليه لا يقابل “الوحش” أو السيدة “هافيشام”!! إنه يقابل هلاكه المحتوم.
الكثيرون في هوليوود انزعجوا من جرأة “وايلدر” في هذا الفيلم، ليس لأنه يزيّف الواقع، بل لأنه عرض الحقيقة الناصعة على شاشة السينما ليراها العالم أجمع، في حين لا يبدو للوهلة الأولى أنّ “وايلدر” هو الشخص المناسب لكتابة وإخراج فيلم كهذا، فهو حينئذ لا يزال نوعاً ما دخيلًا على هوليوود، لأن جذوره أوروبية، فقد هاجر إلى أمريكا بعد بزوغ قوة “هتلر” في أوج الحرب العالمية الثانية.
لكن “وايلدر” أثبت جدارته كصانع أفلام مرموق، بمستوى يفوق مخرجي هوليوود الأصليين، بدايةً ككاتب نصوص، ومن ثم الإخراج بجانب الكتابة، وانطلاقته الكبرى كانت التحفة السينمائية العظيمة “Double Indemnity” في عام 1944، حيث كان واحدًا من أروع أفلام الجريمة والإثارة، على نمط أفلام العظيم “ألفريد هيتشكوك”، وبعده بعام كتب وأخرج فيلم الدراما المميز “The Lost Weekend” محققًا الفوز بجائزتي أوسكار لأفضل إخراج وأفضل نص سينمائي، كما فاز الفيلم بجائزة أفضل فيلم، وحين شرع في فيلمه هذا كان قد قضى من الوقت ما يكفي في هوليوود لفهم طبيعة الأمور فيها، فبالتالي لاقى الاحترام والتقدير من الجماهير والفنانين والنقّاد.
الفيلم هو عبارة عن لوحة فنية لنجمة أفلام صامتة منسية، التي تعيش في عزلة في قصرها الكئيب والمتداعي في جادة سانست، وتعرض أفلامها القديمة عبر آلة العرض في غرفة السينما الخاصة بها، وتحلم بالعودة إلى النجومية، والمشاهد الافتتاحية للفيلم هي من أكثر المشاهد الراسخة في ذاكرة السينما.
تتتبّع الكاميرا الدراجات النارية وسيارات الشرطة إلى حين وصولهاإلى ذلك القصر، حيث تطفو جثة رجل في بركة السباحة، ولكي نتعرف على هوية ذلك الرجل الميّت وقصته، يزوّدنا الفيلم بصوت الراوي الذي يسرد الأحداث قائلًا: “قبل أن تسمعوا الأخبار المحرّفة والمُبالغ فيها، وقبل أن يكتب عنها محرّرو المقالات في هوليوود، ربما تودّون الاطّلاع على الوقائع والحقيقة الكاملة”. صوت الراوي يستمر معنا طوال الـ 100 دقيقة القادمة.
“جو غيليس” هو كاتب نصوص سينمائية مغمور، ولا يمكنه العثور على عمل يكسبه لقمة العيش، وحين تتم مطاردته من قبل محصّلي الديون لمصادرة سيارته، يفلت منهم بالانعطاف عن الطريق، حتى يصل إلى ذلك القصر في جادة سانست.
يظن “جو” في البداية أنّ القصر مهجور، حيث يرى بركة السباحة فارغة من الماء، وملعب التنس في حالة يرثى لها، وكل شيء يبدو قديمًا وباليًا، ولكن بعد التحقّق يكتشف أنه مأهول بالسكّان: نجمة الأفلام الصامتة “نورما ديزموند”، وخادمها المخلص “ماكس فون مايرلينغ”، بالإضافة لرفيقها القرد الذي مات للتو.
تلك هي “نورما”، التي كانت في زمنٍ مضى نجمة الجماهير الأولى، وأصبحت بعيدة عن الأضواء لأكثر من عقدين من الزمن، والآن أصبحت بعيدة عن عقلها وعلى حافة الجنون. حين يدخل “جو” إلى القصر، دافعه الأول والأهم تخليص نفسه من المأزق بشكل سريع، ولكن عندما يقابل “نورما” ويكتشف أنها يمكن أن تدرّ عليه مبلغًا محترمًا من المال، يقوم برسم خطة، حيث أنّ “نورما” كتبت بنفسها نصّا سينمائيًا لفيلم جديد يُفترض أن يكون مشروع عودتها الكبيرة لعالم النجومية، وترغب في تقديمه إلى المخرج “سيسيل بي ديميل” ليخرج الفيلم وهي البطلة.
في لمحة سريعة، يرى “جو” أنّ النص رديء وكارثي، فيعرض خدماتهلمعالجته وتطويره، وبالطبع توافق “نورما”، وهي غارقة في أحلام العودة، ويقرر أخذ النص إلى شقته للبدء في العمل، إلّا أنّ “نورما”تصر على أن ينتقل للعيش معها في القصر، باعتباره بديل مناسبلقردها الميّت، في حين يعتبره “ماكس” كلبًا ضالًّا، وسرعان ما يعيش “جو” حياة مترفة، وتتم تلبية كافة احتياجاته، ويشعر بالراحة، إلى حين يصبح الوضع غير مريح بتاتًا.
الفنانة “غلوريا سوانسون” في أروع أداء لها على الإطلاق، بشخصيةنجمة الأفلام الصامتة “نورما ديزموند”، بمخالبها البشعة، وتكلّفهاالمسرحي، وأحلامها البالية. الفنان المبدع “وليام هولدن” يجسّد بتلقائية ودون إدراك شخصية الكاتب الشاب “جو غيليس”، الذي يسمح لـ “نورما” أن تحتفظ به. هناك أيضًا أداءٌ قوي يغذّي الفيلمويمنحه رنينًا عاطفيًا ويجعله أكثر واقعية بالرغم من أجوائه القوطية،وأقصد بذلك أداء الفنان “إريك فون ستروهايم”، بشخصية “ماكس فون مايرلينغ”، الخادم الشخصي المخلص لـ “نورما”.
يتوغّل الفيلم في أحشائنا كالورم الخبيث، وينخر عظامنا، برصده لواقعية تفوق الواقع لقصة هوليوودية حول نجوم الأفلام الصامتة، فـ “غلوريا سوانسون” تجسّد نفسها فعليًّا من خلال شخصية “نورما”، فهي أيضًا كانت نجمة عريقة في الأفلام الصامتة حتى مطلع الثلاثينيات، وظلّت بعيدة عن الأضواء لنحو 16 عامًا حتى تم اختيارها للمشاركة في هذا الفيلم.
“إريك فون ستروهايم” بشخصية “ماكس”، الذي كان واحدًا من أعظم مخرجي الأفلام الصامتة في وقتٍ مضى، والذي وصل به الحال الآنإلى العمل كخادم شخصي للمرأة التي كانت زوجته والتي أخرجأفلامًا من بطولتها.
في محاكاة صادمة للواقع، “إريك فون ستروهايم” كان بالفعل مخرجًافي وقتٍ مضى، مثل شخصية “ماكس” التي يجسّدها في الفيلم، وقد أخرج فيلمًا من بطولة “غلوريا سوانسون” في عام 1932، وهو فيلم “Queen Kelly“. الفيلم لم يحقق نجاحًا ملحوظًا، مقارنة بأفلامه الناجحة في فترة العشرينيات، مما جعله يعتزل الإخراج ويتجه للتمثيل في أدوار مغمورة جعلته منسيًّا.
تقوم “نورما” بعرض أحد أفلامهما القديمة لـ “جو”، و”ماكس” يتولّىتشغيل آلة العرض. المشهد الذين نراه هو من فيلم “Queen Kelly“،ولوهلة من الزمن، “غلوريا سوانسون” و”إريك فون ستروهايم” يجسّدان نفسيهما بكل بساطة وواقعية، في فيلمهما الذي مضى عليه 18 عاماً. لاحقًا عندما ينتقل “جو” للسكن في القصر، يريه “ماكس”غرفة نوم مزخرفة ويقول له: “هذه كانت غرفة الزوج”.
إنّ “ماكس” يشير إلى نفسه، فقد كان أول زوج لـ “نورما” من بين أزواجها الثلاثة، وكان يحبها كثيرًا لدرجة أنه كان على أتم الاستعداد للعودة إليها كـ “خادم شخصي”، ليغذّي أوهامها، ويكتب بنفسه مئات الرسائل ليملأ بريدها الخاص برسائل المعجبين. إنّه يكرّس نفسه وحياته من أجلها.
“بيلي وايلدر” وزميلاه الكاتبان “تشارلز براكيت” و”دي إم مارشمان جونيور” كانوا يدركون تمامًا أصول شخصيات الفيلم، والأمر المثير للاهتمام هو الواقعية المفرطة التي تجرّأوا على عرضها للجمهور. لقد استخدموا أسماءً حقيقية لممثلين موجودين آنذاك، مثل “غريتا غاربو” و”داريل زانوك” و”تايرون باور” و”ألان لاد”، بالإضافة لظهور خاص لـ “هيدا هوبر”، التي تجسّد نفسها في مشهد مهم في الفيلم، والتي تعتبر أشهر ناقدة سينمائية، وموهبتها هي التشهير الوحشي بالمشاهير وإظهار فضائحهم وإثارة الفتنة بينهم.
أيضاً هناك مشهد مضحك ومبكي، حين نرى 3 نجوم حقيقيين يجسّدون أنفسهم: “باستر كيتون” و”آنا كيو نيلسون” و”إتج بي وارنر”، وكانوا في السابق من أبرز نجوم الأفلام الصامتة، والآن هم يجلسون مع “نورما” ويلعبون لعبة البريدج. “جو” يعبّر عن المشهد بتعليق لاذع، حيث يصفهم بـ “تماثيل الشمع”.
تتجسّد الواقعية أيضًا في زيارة “نورما” إلى ستوديوهات شركة بارامونت للإنتاج لمقابلة المخرج الكبير “سيسيل بي ديميل”، الذي يجسّد نفسه، والذي كان حينها يصوّر فيلمًا حقيقيًّا، وهو “Samson and Delilah“. إنها يناديها بـ “الزميلة الصغيرة”، كما كان يناديها وهي “غلوريا سوانسون” منذ زمن طويل.
“سيسيل بي ديميل” كمخرج و”غلوريا سوانسون” كممثلة بطلة قدّما معًا 6 أفلام في فترة السينما الصامتة ما بين عام 1919 وعام 1921، وفي هذا الفيلم، كما في الواقع، نشعر بصدق أدائهما لتاريخ عريق انطوى.
هذا الفيلم بكل تأكيد هو أفضل فيلم حول كواليس أو كوابيس الحياة الهوليوودية بجرأته اللاذعة، وحين تقوم “نورما” باستقبال “جو” في قصرها، يخبرها: “كنتِ نجمة كبيرة”!! “نورما” ترد قائلة، في واحدة من أشهر العبارات في تاريخ السينما: “أنا كبيرة، وإنّما الأفلام باتت صغيرة”.
حبكة الفيلم أتاحت لـ “جو” عدّة أسباب لقبول عرض “نورما” لوظيفة كاتب نصوص سينمائية. إنه مفلس ومتخلّف عن دفع إيجاره، وسيارته على وشك أن تُصادَر، وهو لا يرغب في العودة إلى وظيفته الحاليةكصحفي، وفي نفس الوقت هو لا يريد أن يكون بائع هوى كي يعيش مع “نورما”.
إنّ شخصيته تمر بعدّة تقلّبات، ونراه ضعيفًا ومهزوزًا، فهو يقول أنه لا يريد قبول هدايا “نورما”، لكنه يأخذها، كعلب السجائر الذهبية، والساعة الفاخرة، والملابس، والأحذية، ونحن نعرف أنه يدّعي أنه فوجئ ليلة رأس السنة الجديدة عندما أقامت “نورما” حفلة خاصة لهما فقط.
إنّه بالتأكيد يدرك منذ البداية أنها لا تريد كاتبًا وحسب، بل أيضًاتريد شابًّا يشعرها أنها لا تزال جذّابة. لنكون منصفين، الحياة مع “نورما” ليست كلها سيئة أو مملّة. إنها ظريفة أحيانًا بتكلّفها المسرحي الزائد، وتمتلك خفّة دم تؤهّلها لتقدّم عرضًا مسرحيًّا ممتعًالـ “جو”، وتقليدها مشهدًا من أفلام “تشارلي شابلن”.
هناك أيضًا شخصية مهمة، والتي تمثّل نافذة الأمل أو روح الحياة للفيلم، ولـ “جو”. إنها الكاتبة الشابة “بيتي”، التي تعمل في قسم النصوص بشركة بارامونت للإنتاج، والتقى بها “جو” في وقت مبكّر من الفيلم، وهي مخطوبة وعلى وشك الزواج من صديقها “آرتي”، ولكن حين يبدأ “جو” بالتسلّل من القصر للتعاون معها في كتابة نص سينمائي جديد، هي تقع في حبه. إنه منجذب نحوها، لكنه يتراجع، ربّما لأنه لا يريدها أن تكتشف الحقيقة، أو أنه اعتاد أسلوب الحياة مع “نورما” في القصر، أو أنّه وبكل بساطة وقع تحت سلطتها وقبضتها.
نال الفيلم بجدارة 3 جوائز أوسكار لأفضل نص سينمائي وأفضل موسيقى تصويرية وأفضل تصميم مواقع، وترشّح لنيل 8 جوائز أخرى لأفضل فيلم وأفضل إخراج وأفضل تصوير وأفضل مونتاج وأفضل ممثل “وليام هولدن” بشخصية “جو” وأفضل ممثلة “غلوريا سوانسون” بشخصية “نورما” وأفضل ممثل مساعد “إريك فون ستروهايم” بشخصية “ماكس” وأفضل ممثلة مساعدة “نانسي أولسون” بشخصية “بيتي”.
قد يكون النص السينمائي لهذا الفيلم من أقوى النصوص على الإطلاق، فخط سير الأحداث رائع ومشوّق ومليء بالغموض، والحوارات بين الشخصيات ترسخ في الذاكرة، فكم هي بليغة ومدهشة. الموسيقى التصويرية للمبدع “فرانز واكسمان” جعلت الفيلم أكثر روعة بانسجامها مع الأحداث وقد عزّزت عنصر الغموض والتشويق، بالإضافة للتصوير الخلّاب ومواقع التصوير والمونتاج المتقن.
هذا الفيلم هو بداية الانطلاقة لـ “وليام هولدن”، الذي أعتبره من أفضل الممثلين في هوليوود، وقد شارك بعده بـ 3 أعوام في فيلم “Stalag17” مع المخرج “وايلدر” أيضاً، محقّقًا الفوز بجائزة الأوسكار لأفضل ممثل، وبعده بعام شارك معه في الفيلم الرائع “Sabrina“، وصار من أبرز نجوم هوليوود مع حصيلة من الأفلام الرائعة والمميزة.
بعد هذا الفيلم العظيم زادت شعبية “وايلدر” في هوليوود، وقد قدّم روائع الأفلام، والأمر المميز هو أنه لم يمسك خطًّا واحدًا أو نمطًا معيّنًافي أفلامه، فقد خاض عدّة تجارب ونجح في معظمها بامتياز، فهناك فيلم الجريمة والغموض “Witness For The Prosecution” المقتبس من مسرحية للكاتبة “أغاثا كريستي”، الذي أعتبره أروع فيلم له على الإطلاق، ومن أروع ما شاهدت في حياتي.
أيضًا هناك الفيلم الدرامي والرومانسي والكوميدي الجميل والمنعش “Sabrina“، والفيلم الكوميدي الأروع بالنسبة لي على الإطلاق “Some Like it Hot“، وأخيرًا التحفة الأوسكارية “The Apartment“. حصيلة “وايلدر” في الأوسكار هي 21 ترشيحًا ككاتب ومخرج ومنتج، محقّقًا الفوز 6 مرات، بالإضافة إلى جائزة أوسكار خاصة بعام 1988.
لقد تقاعد “وايلدر” عن العمل في عام 1981، وكان قد قرّر العودة لإخراج فيلم “Schindler’s List” في عام 1993، ولكن الذكريات الأليمة التي مرّ بها في شبابه هو وعائلته أثناء الحرب العالمية الثانية منعته من العمل، فتم إسناد المهمة للمخرج الكبير “ستيفن سبيلبيرغ”، والذي أبدع فيه حقًّا، حتى أصبح أفضل فيلم له على الإطلاق. توفي “وايلدر” في عام 2002، عن عمر 96 عامًا.
“نورما” تعيش كل لحظة كممثلة تقدّم أداءً، والعالم بالنسبة لها أشبه بخشبة مسرح أو موقع تصوير، فحياتها تحوّلت إلى ميلودراما، وإنْكان كل ذلك في عقلها فقط، فهي ترى نفسها دائمًا أمام الجمهور. من نواحٍ عديدة، تمثّل سلوكياتها اليومية محاكاة ساخرة وغريبة للتمثيل السينمائي الصامت، وهذا ما أضافته “غلوريا سوانسون” في أدائها العظيم، حتى يتحقق حلمها أخيرًا وهي تنزل من السلالم، والكاميرات موجّهة نحوها، وأفراد الطاقم الفني والتقني ينظرون إليها، وهي تؤدي مشهدًا من فيلمها الجديد “سالومي” مع المخرج “سيسيل بي ديميل”، قائلةً له: “سيد ديميل، أنا جاهزة للقطتي المقرّبة”.