أدب
توعّك رجلٌ مسن في قريةٍ صغيرة بريف ديرالزور الغربي بشكلٍ مفاجئ، في شهر آذار عام 2011، فشاهد أثناء مرضه مناماً رواه لزواره وأقاربه ممّن جاء ليطمئن عليه، ومفاد هذا المنام أنّه رأى ولياً من أولياء منطقة الفرات ومشى معه وتحدّث معه، الولي المذكور كان قد عاش في القرية قبل ما يقارب 100 عام أو يزيد بحسب ما يعتقد البعض في القرية، أمّا ما أخبره الولي للكهل يخص الأخير بالدرجة الأولى إذ أخبره أنّه سوف يحيا ولن يموت في هذه الوعكة الصحية بل ستكون مجرّد مقدمة لنهاية الرجل المسن.
أمّا الجزء الثاني من الحديث فهو أنّه سوف يعود ويأخذ أرواح الكهول في القرية، فهو لن ينساهم “ارجع عليهم مرات ومرات”، وحكى أيضاً أنّه شاهد عصافير صغيرة تطير مبتعدة بكثافة، فوق نهر الفرات وتختفي في الأفق، ممّا حدا به لسؤال الولي عنه فجاءه جواب الولي الجاف ليختصر قصة سنوات قادمة: هذه أرواح الأطفال الذين سوف يقتلون خلال السنوات القادمة!
بعد ما يقارب الست سنوات من تلك الواقعة، وفي مكان بعيد تماماً عن تلك البقعة الصغيرة والتي يفضل أهلها تسميتها بالنقرة أيّ الحفرة لانخفاض أرضها، وبعد أن مرت سنوات معاناة قاسية في سوريا حضرت 4 منها، وبعد مكوث سنتين في تركيا خرجت لاحقاً إلى فرنسا، كنت أحضر قصة اللجوء التي سأقدمها لمكتب اللجوء في العام 2017 عندما راودني حلم أيقظني من نومي فزعاً، رأيت الفرات يعلو ليصل لمئات الأمتار ثمّ يقتلع منزل أهلي، آخر من رأيتهم أبي وأمي ثمّ وجدت نفسي في مكان بعيد وغريب، وحولي بقايا حطام جرفته الموجة العاتية معي، ولم أعد أرى أحداً أو شيئًا من عالم أصبح من الماضي، فقط بضع حطام وتيه في بلدٍ آخر.
خارج غرفة القاعة التي تمّ فيها استجوابي وقفت لاستنشق بعض الهواء فقد انتظرت 3 ساعات، حتى جاء موظف أنيق ودعاني للحاق به وصعدنا أكثر من عشر طبقات، كان البناء من الزجاج والسلالم أشبه بالمتاهة، ولكنّه مغلق كعلبة كبريت، الأكسجين يصبح مفقوداً مع ساعات الانتظار الطويلة والمملّة داخله، يبدو أنّني أتحدث عن فرع أمن أو معتقل في سوريا، أتذكر الساعات التي قضيتها في أحد الأفرع، ولكن الحقيقة أنّني في مبنى الذي يتم فيها أخذ إفادة اللجوء والتي يُعطى اللاجئ حق اللجوء بعد تقييمها، لم أحاول أن أتحدث بشكل مأساوي نصحني سوريون كثر بعدم الكذب!.
ربما كان علينا وعليهم أن نتمنى ليتنا نكذب ويكذبون وأنّ الحقيقة هي شيء آخر وواقع آخر لا نعيشه اليوم، ليته كان كذباً وليت لدينا ترف الكذب على واقعنا لا العكس، والحقيقة أنّني جئت لهذه المقابلة وليس لدي رغبة بالكلام، اختفى أيّ ميل للتواصل مع أحد عندما طالعت تلك الوجوه في قاعة الانتظار، عبوس من كلّ الجهات نساء وأطفال ورجال وشباب وكهول، من جنسيات شتى، لا يجمعهم سوى التعاسة والتجهم البادي في وجوههم، لم أخش أن يرفض طلبي ولا حتى أن أرحل خلال الأشهر الماضية، أشهر لا رابط بينها إلا شقاء لا أسباب واضحة له، ولست ممّن يتعلّقون بالأماكن، أو ممّن لا يحبون الأماكن، والحق أنّني فقدت الإحساس بالمكان منذ أشهر من وصولي إلى هنا.
الموظف الذي تولى أخذ إفادتي كان أميناً أكثر ممّا يجب في عمله سألني أسئلة كثيرة شخصية وسياسية وعن عملي وعن دراستي، ولكن أسئلته عن مشاعري أو ماذا أعتقد جعلتني أتوقف أكثر من مرة وأتطلع في وجهه ووجه المترجم مستغرباً السؤال، لم أكن أتوقع أن تكون الأسئلة بهذه الشخصية والفضول المفرط، خلال ساعة ونصف مضت كنت متوتراً جداً مع كلّ سؤال ينكأ جرحاً، أتذكر مشهداً مؤلماً أو صورة فظيعة أو مشاعر طاغية.
تذكرت الطفل الذي كان يبيع المازوت والبنزين على طريق تل أبيض في الرقة السورية، لم يكن يبلغ أكثر من 10 سنوات وبخه أحد سائقي السيارات بأنّه يحاول خداعه بوقود غير نظامي، طفرت دمعتان من عينيه أخفيت وجهي بين يدي من هول الألم، شعرت أنّ دمعتيه كتلتان من الحديد يسقطان عليّ وعلى السيارة فنعجن ونسيل ونختفي في تلك الأرض المغبرة، تذكرت تلك المفخخة التي انفجرت في قريتنا، أرى قادماً ووجهه يحمل ابتسامة عصبية يحمل قطعة لحم لإنسان عليها بقايا ضئيلة من خرقٍ وثياب ويقول: هذا ما بقي من الانتحاري.
هل هناك طريقة لإتمام هذه المقابلة بدون هذا التعذيب؟ عاد المترجم ليعيد قوله الذي قاله لي أول المقابلة بأنّ التفاصيل ستكون لصالحي ولصالح طلب اللجوء، تنفّست عميقاً من الهواء البارد، محاولاً تهدئة سيل الذكريات الذي تداعى لعقلي جراء إلحاح الموظف، أحس بتعب ليس كالتعب المعهود، إحساسي بجسدي يبدو طبيعياً أمّا في رأسي فأشعر بنوعٍ من الوهن الخفيف جداً لا يشبه الصداع كذلك، متى تنتهي هذه المحنة، أخشى أن أطلب منه في لحظة غضب أن يضعوني في أول طائرة كي أغادر أو أرحل.
ليس الخوف من السفر بل من التعب والحاجة إلى النوم العميق ولست في حاجةٍ لإثارة المشاكل، بعد أن انتهت الاستراحة دلفت مجدداً إلى داخل المبنى، من المؤسف أن تمر هذه الاستراحة بدون سيجارة، أقلعت عن التدخين منذ أسبوع، استيقظت صباحاً وبدون مناسبة أكملت يومي بدون أن أكلف نفسي جلب سجائر ومضى أسبوع، قلت لصديقي يوم أمس: عاداتي تتمرد علي، أدخن، وأقلع، آكل بشراهة، وأمضي أياماً بدون أكل، أهيم في الطرقات بدون وجهة، واستمتعت بوحدة تستمر لأيام أقضيها.
لم أتعرض لتحقيق من قبل، هذا النوع من المقابلات يجعلك تشعر بوجود شيء ما كنت أسمع به “أنا عارٍ أمامهم” أحسّ بعري مجازي، وهو ليس بالحال الجيد، من غير المحبب التطرق لمساحاتنا الخاصة حتى عندما تعطوننا حقّ اللجوء هنا، واجمٌ معظم الوقت أجيب باختصار، ويسأل ويصر على أسئلته بنوع من الاستفزاز، يسألني: ألم تقاتل مع الجيش الحر، أجاوب: لا. ثم يصعقني بسؤاله التالي حتى شعرت أنّه نجح في سباق الاستفزاز، جاء السؤال من المترجم حرفياً: أنت باعتبارك مناضل ما كان من الواجب أن تحمل السلاح بوجه عدوك! لا أذكر كيف تمالكت نفسي وكيف استطعت أن أجيب بكلّ لباقةٍ لازمة على سؤاله، قلت له: إنّها مجرّد ظروف هي من حددت مكاني هذا، لم أكن أختار أين يجب أن أكون، كنت طالباً تركت الجامعة ووجدت نفسي بعدها خارج البلاد أعمل في الكتابة الصحفية، لم أختر أن أكون كذلك وظروفي لم تجعلني مقاتلاً فقط.
مضت ساعتان ونصف بعدها ظهر الإعياء عليّ، لم يعد عندي رغبة نهائياً بالحديث، جرفتني الذكريات بعيداً عن المبنى الزجاجي وعن هذه المدينة الباردة، أتذكر أمي تقول لخالتي وهي تروي لها ما قالته قريبتهما من بعيد عن ابنها الشهيد الذي سقط في بداية العمل المسلح: تقول كان الشهر آنذاك رمضان، ومن الليل شعرت أنّ ابني تغير ويتصرف بغرابة وبدون ارتياح، أنّه يخفي أمراً لا محالة، أعرف أنّه يذهب مع من يتظاهرون ثمّ لحق بمن يحملون السلاح ومنذ ذلك الوقت وقلبي عليه كالجمر، خلال (السحور) طلب مني أن أوقظه على صلاة الفجر قال إن لديه عملاً هاماً، نام ساعات قليلة ولم أوقظه لم يطاوعني قلبي، لا أريده أن يستيقظ ولا أن يذهب لعمله “الهام” ولكن وقبل شروق الشمس بقليل يستيقظ بسرعة، وعلى عجلٍ يقول لي ألم أقل لك أن توقظيني، يرتدي ثيابه ويركض إلى الشارع ألحق به وأنادي عليه ألا يذهب، ولا يجيب يمسكني إخوته ويعيدوني للمنزل، وأعرف أن ابني لن يعود.
أصعد في المترو وأنا مجهد جداً، وأنا لا أكاد أقوى على الوقوف، خائر القوى ومعدتي خاوية وعقلي شارد، أرى الضواحي الباريسية المكتظة بالمهاجرين من جنسيات شتى قبل الدخول في قلب باريس، المترو يصعد فوق الأرض ترى الأبنية وتطالع أجساد البشر تتنقل بين الزوايا والنوافذ، ثم يهبط سريعاً تحت الأرض، ليغوص ويخرج فوق بعدها بدقائق من مكان آخر.






