مجتمع
في أحد شوارع دمشق المزدحمة، لم يكن المشهد سوى واقعة عابرة في ظاهرها: شرطي مرور يطلب من سائق سيارة أن يلتزم بقانون السير ولا يركن في مكانٍ مخالف. لكن ما حدث بعد ذلك كشف جوهراً أعمق من مجرّد مخالفةٍ مرورية، حين ترجل السائق واتّضح أنّه عنصر في أحد أجهزة الاستخبارات، فصرخ بوجه الشرطي قائلاً بعبارته: “أنا استخبارات ولاك؟” جملة قصيرة، لكنّها كفيلة بتلخيص نصف قرن من العلاقة المختلّة بين السلطة والمجتمع في سوريا.
انتشر المقطع المصوّر على نطاقٍ واسع عبر مواقع التواصل الاجتماعي، واشتعلت التعليقات التي استحضرت تاريخاً طويلاً من التمييز، والجبروت الأمني، والاعتداء على كرامة المواطنين. فهذه ليست حادثة عادية، بل مشهداً رمزياً يعكس تصادم ثقافتين: ثقافة الخضوع والخوف التي ورثها السوريون عبر عقود من الحكم الأمني وثقافة القانون والعدالة التي يحاولون اليوم ترسيخها بعد سقوط النظام وهيمنة عناصر الأجهزة الأمنية.
جذور الظاهرة: من حافظ إلى بشار.
منذ السبعينيات، حين تسلّم حافظ الأسد الحكم، بُنيت الدولة السورية على أسسٍ جعلت من الأجهزة الأمنية سلطة فوق كل السلطات. أصبحت “الصفة الأمنية” في المخيال السوري مرادفةً للنفوذ المطلق. كان من يمتلك بطاقة أمنية، ولو رمزية، يُعامل كأنّه فوق القانون، بينما المواطن العادي يُحاسب حتى على أبسط المخالفات. هذه الازدواجية في تطبيق القانون أفرغت العدالة من معناها، وولّدت ثقافة خوفٍ مجتمعية جعلت السوريين يبتعدون عن أيّ مواجهةٍ مع السلطة، مهما كانت مظالمهم واضحة.
وفي عهد بشار الأسد، لم تتغير المنظومة، بل اتخذت شكلاً أكثر “تحديثاً” في الشكل وأشدّ قسوة في الجوهر. غُلّفت القبضة الأمنية بخطابٍ إصلاحي، لكن الامتيازات استمرت كما هي، وازدادت الهوّة بين المواطن والدولة. لم تكن عبارة “أنا استخبارات” غريبة على آذان السوريين، بل كانت كفيلة بإنهاء أيّ نقاشٍ، وغالباً ما كانت كلمتها الأخيرة في أيّ خلاف، مهما كان بسيطاً.
الثورة ومطلب المساواة أمام القانون.
حين خرج السوريون إلى الشوارع عام 2011، لم تكن مطالبهم مقتصرة على الخبز أو الحقوق السياسية، بل على الكرامة والعدالة. كانوا يريدون دولةً لا يُهان فيها الإنسان باسم الأمن، ولا يتفوّق فيها أحد على آخر إلا بالقانون. كانت الثورة، في جوهرها، رفضاً لمنطق “أنا استخبارات ولاك”، ومطالبةً بأن تكون عبارة “أنا مواطن سوري” هي الأعلى.
لقد أراد السوريون إنهاء حقبة الخوف، واستبدالها بحقبةٍ من المواطنة المتساوية. ومع مرور السنوات، ورغم كل ما واجهوه من قمعٍ وتشرّد، بقيت هذه القيم راسخة في الوعي الجمعي: المساواة، والمحاسبة، وسيادة القانون. واليوم، ومع تفكك سلطة الأجهزة وسقوط نظام الأسد بدأ الناس يمارسون لأول مرة حقهم الطبيعي في المطالبة بالعدالة، دون خوفٍ من الرتب أو النفوذ وهذا مكسب كبير من مكاسب سقوط النظام.
صدام بين ثقافتين.
حادثة الشرطي وعنصر الاستخبارات ليست مجرّد حادثةٍ فردية، بل هي تصادم رمزي بين ثقافتين متناقضتين: ثقافة القوة والتسلّط، وثقافة القانون والكرامة. الشرطي، حين طالب السائق بالالتزام بالقانون، لم يكن يتحداه شخصياً، بل كان يمثّل فكرة الدولة الحديثة التي يفترض أن تخضع فيها كلّ السلطات للقانون. أما العنصر الأمني المعتدي، فكان يجسد ما تبقّى من ثقافة النظام القديم التي ترى في “الصفة الأمنية” تفويضاً بالهيمنة لا خدمةً للمجتمع.
وزارة الداخلية السورية أصدرت بياناً أعلنت فيه توقيف عنصر المخابرات وإحالته للقضاء المختص، مؤكدة أن لا أحد فوق القانون، وهذا التصرّف من وزارة الداخلية يعكس تغيّراً جوهرياً في رؤية السلطات السورية الجديدة لهذا النوع من الانتهاكات وإدراكها أنّ كرامة وحقوق السوريين أكبر وأعلى من أيّ امتيازٍ يمنح لعنصر أو موظف أمني لديها.
شجاعة الشرطي وهيبة القانون الحقيقي.
ما يلفت في هذه الحادثة ليس فقط تصرف المعتدي، بل ثبات الشرطي. فقد أظهر رباطة جأشٍ نادرة في بلدٍ طالما اعتاد رجاله على الخضوع للمستقوي بالنفوذ. لم يردّ بالمثل، ولم ينهزم أمام التهديد، بل حافظ على هدوئه، ممسكاً بحقه، وممثلاً هيبة الدولة الحقيقية هيبة القانون، لا السلاح
شجاعة هذا الشرطي تمثل تحولاً مهماً في الوعي المؤسساتي للدولة السورية الجديدة. فالموظف العام، سواء كان شرطياً أو قاضياً أو موظف بلدية، يجب أن يرى نفسه خادماً للقانون لا تابعاً لأيّ سلطة فوقه. ومثلما تصرّف هذا الشرطي، يجب على كلّ العاملين في مؤسسات الدولة أن يضعوا القانون فوق أيّ اعتبار حزبي أو أمني أو شخصي.
هذه الروح الجديدة، إن ترسخت، ستكون اللبنة الأولى في بناء دولة العدالة والمواطنة التي طالبت بها الثورة منذ يومها الأول.
نحو ترسيخ قيم الثورة.
لقد خرجت الثورة السورية لتنادي بالحرية والكرامة والمساواة، وهذه المبادئ ما تزال البوصلة الأخلاقية لأيّ مستقبلٍ يمكن أن يُكتب لسوريا. اليوم، ومع انكشاف إرث الظلم والتمييز، يقع على السوريين واجب أكبر: التمسك بهذه القيم في تفاصيل حياتهم اليومية في الشارع، في المؤسسات، في التعامل مع بعضهم البعض.
إنّ مواجهة الاستقواء بالسلطة لا تكون بالشعارات فقط، بل بالالتزام الفعلي بالقانون، ورفض أيّ شكل من أشكال الامتياز أو المحسوبية. فدولة العدالة لا تُبنى فقط بإسقاط النظام، بل بإسقاط ذهنيته من داخل المجتمع.
ختاماً
حادثة رجل الاستخبارات في دمشق لم تكن مجرّد مشهدٍ عابر، بل لحظة رمزية في تاريخ التحوّلات السوري. إنها إعلان غير مكتوب بأنّ زمن “أنا استخبارات” يقترب من نهايته، وأنّ زمن “أنا مواطن” بدأ يُولد من رحم المعاناة، فحين وقف شرطي مرور بسيط في وجه التسلّط بهدوءٍ وكرامة، كان يمثّل ملايين السوريين الذين حلموا بعدالةٍ لا تميّز بين قوي وضعيف.
اليوم، ومع سقوط الخوف، بات من الممكن بناء سوريا الجديدة على أسسٍ مختلفة سوريا القانون، لا سوريا الأجهزة الأمنية والمخابراتية هي التي تنتهك الحقوق.
فما جرى في شارعٍ من شوارع دمشق لم يكن مجرّد خلافٍ على مخالفة مرورية او مكان ركن سيارة، بل كان إعلاناً بأنّ الشعب الذي ثار ضد الاستبداد، قادر على إعادة تعريف معنى الدولة، حين يجعل من القانون سيداً لا تابعاً لأحد.





