أدب
عندما يُدوِّن الصحفي شهادته عن حدث مميّز تصبح مع مرور الوقت وثيقة تاريخية، خصوصًا لو كان شاهد عيان عليها. قفزَت في ذهني هذه الفكرة وأنا أرى منشورًا على موقع إكس لقارئ يقرأ في كتاب “أعجب الرحلات في التاريخ” للرحالة أنيس منصور، فرغم مرور السنوات نسيتُ كلَّ أعجَبِ رحلاته التي قرأتُها لديه في بداية سنواتي الجامعية، وظلّ عالقًا في ذهني براعة وصف منصور للاحتفالات التي شهدها أنيس في طهران، لأنّ منصور كاتبٌ شَهِدَ الوقيعة وغَشِيَ الوغى لكنه لم يعفَّ عن الغنيمة، وعاد لنا بصورةٍ وصفيةٍ لترَفِ الشاه قبل السقوط، وكتبَ لنا قطعةً أصبحت أدبًا خالصًا.
أقام شاه إيران، محمد رضا بهلوي، الاحتفالات الضخمة بمناسبة مرور 25 قرنًا على إنشاء كوروش العظيم للإمبراطورية الفارسية، فوصف منصور الاحتفالات بأنّها “المهرجان الذي دوَّخ الملوك والرؤساء“، ثمّ تخيَّلَ منصور لو كانت معه شهرزاد في طهران، لَرَوَتْ لشهريار أعجب ما رأت وسمعت كأنّهما في ألف ليلة وليلة. ثمّ يخبرنا أنّه سَيَرِدُ على لسانها عشرون اسمًا عالميًّا لدور الأناقة، والتجميل، والهندسة، والإضاءة الفخمة، وقدّموا لهم الشاي بالملعقة الذهبية!
مهَّدَت هذه الاحتفالات للثورة الإسلامية على الشاه بقيادة آية الله الخميني، فمِن مَسْكَنِه المتواضع في النجف اتَّهَم الخمينيُّ الشاهَ بأنّه “مجنون بالعظمة وطاغية غاشم”، وتوعَّد الخميني شاه إيران من منفاه بأنَّ “مستقبلًا أكثر قتامة ينتظرُك!”.
كلّ الغضب في إيران بدأ مع هذه الاحتفالات، كأنّها مشهد ختام لعهد الشاه المبهرج بالأبهة، واعتبرها المثقف الإيراني إحسان نراغي في مذكراته البديعة “من بلاط الشاه إلى سجون الثورة” بداية الاضطرابات، فقد اندفعت البلاد في موجة تبذير عارمة، واعتبر نراغي الاحتفالات تجسيدًا لجنون العظمة، ولنزوات الشاه الذي لم يكُن يهتمُّ حقًّا بتاريخ بلاده، بترف منقطع النظير في التاريخ المعاصر، وبأموال طائلة هُدرت.
عقد الشاه اتفاقات مثيرة للدهشة مع الشركات الغربية في هذه الاحتفالات، مع مبالغة في ترويج هذه الاحتفالات إعلاميًّا، ما سبَّب صدمة عميقة للشعب الإيراني. وكان الشاه قد وجَّه دعوة إلى كل ملك ورئيس دولة أو رئيس حكومة على هذا الكوكب.
عاش الصحفيون تجربة تحمل من الترف الشيء الكثير، فقد طغت على المدينة الخيام الصفراء والزرقاء الفخمة والمكيَّفة ووسائل الترفيه حيث نزل كبار الشخصيات، لكن كلّ ذلك بمسحة فرنسية أكثر من كونها فارسية. كانت الأقداح بلورية مطلية بالذهب، وحتى مصفِّفو الشعر كانوا قد استُقدموا جوًّا من باريس، وكذلك كان الطعام الذي أعدَّه مطعم ماكسيم الفرنسي، ناهيك بتلال الكافيار الإيراني التي فاق وزنها طنَّيْن على مائدة كبيرة مع بيض طيور السمان المسلوق. كان الهدر والتبذير والتصميم على الذوق الغربي أمرًا مستفزًّا للشعب الإيراني، ورأى فيه احتفالًا شرّيرًا. هذا مثال على الصحفي حين يكون شاهدًا على التاريخ وتصبح مقالته وثيقة للتاريخ.
بين الشاه والخميني.
إحسان نراغي هو مثقف وعالم اجتماع، قابل الشاه قرابة خمسين ساعة، ليعطيه فكرة عن الواقع في إيران في أثناء الاحتجاجات على حكم الأسرة البهلوية. أوضّح إحسان -كما يحكي في مذكراته- أنّه قال للشاه إنّ الأزمة قد بدأت مع هذه الاحتفالات التي جرت في برسيبوليس بذكرى مرور ألفين وخمسمئة سنة على تأسيس البلاد، فردّ الشاه مستنكرًا: “لا أفهم! حتى الأشخاص الذين ينتمون إلى أصل ملكي يوجّهون هم أيضًا انتقادات إلى الاحتفالات التي أُقيمت إحياءً لذكرى إحدى أكبر إمبراطوريات العالم! مع أنّنا نجحنا في جمع حشد من رؤساء الدول لم يسبق له مثيل من قبل، ومن بينهم زعماء البلدان الشيوعية”.
هنا أوضح إحسان له: “بالضبط جلالتك، فقد سمعت انتقادات كثيرة عن بعض المآخذ من قبل العائلات المالكة في أوروبا، لم يسبق لي أن سمعتها من قبل، ويمكن أن تتلخص على النحو الآتي: الثورة الفرنسية التي قطعت رأس لويس السادس عشر، والثورة الاشتراكية التي ترافقت مع اغتيال القيصر نقولا الثاني، هزّتا عميقًا الأنظمة الملكية في أوروبا، ثمّ إنّ سقوط الملكية في عدد من البلدان الأوروبية الشرقية والغربية (في إيطاليا واليونان حديثًا) جعل الملكيات الباقية هشّة ومهدَّدة. من أجل هذا بدأت الأنظمة الملكية تتخلى تدريجيًّا عن أمجاد الماضي وتعيش حاليًّا في جو من الكتمان. تظن الأُسَر المالكة في أوروبا أنّ الشائعات التي تثيرها أحداث مثل احتفالات برسيبوليس تُحيي نار العداء القديم للملوك. هذا هو السبب في أنّه لم يكن بين مدعوّيكم ملكة بريطانيا أو ملكة هولندا كما كنتم تتوقعون، على الرغم من «الحملات المركّزة» التي قامت بها سفاراتكم”.
وهنا يعترف إحسان في مذكراته أنّه عَلِم مِن دبلوماسيي فرنسا أنّ إيران لمدة عام كامل كان الشغل الشاغل لسفارتها في باريس هو الضغط والإلحاح لحضور الرئيس الفرنسي جورج بومبيدو. وبما أنّ إحسان كان يعمل في اليونسكو في باريس، فقد قرّر أن يعارض دولته، ورأى وجوب الصدح بالحق وأن ينبّه الإدارة الفرنسية إلى أن تنأى بنفسها عن الشاه وعن هذه الاحتفالات، فأرسل أربع أوراق يشرح فيها للدبلوماسية الفرنسية خَطَل إدارة إيران تحت حكم الشاه، مما أسهم في عدم حضور الرئيس الفرنسي هذه الاحتفالات.
ويُكمِل إحسان نراغي تشريح الوضع لشاه إيران في اللقاءات التي جمعت بينهما، إذ يقول له: يا صاحب الجلالة، كان في الاحتفالات عيبان اثنان أفسدا السحر كله: عيب في الشكل وآخر في المضمون. لنتكلم أولًا عن الشكل، نموذج الملك قوروش الكبير بوصفه محرّرًا للشعب هو غير معروف نسبيًّا، في تاريخنا… أما بالنسبة إلى عيب المضمون، فكيف بالإمكان تبرير النفقات الهائلة التي هُدرت فيما الشعب غارق في البؤس؟
بالإضافة إلى ذلك، لم يسبق للإيرانيين أن اتّحدوا للتغني بحسنات الملكية، إذا كان بعض الشخصيات الملكية يتمتع بحظوة كبيرة لدى الشعب فإنّ هذه الحظوة تعود حتمًا إلى حكمتهم في إدارة البلاد، خصوصًا وقفتهم البطولية في وجه المحتل الأجنبي.
بين الشاه وإسرائيل.
بدأت الفكرة لدى الشاه في سنة 1961، حينما قرر الإسرائيليون إقامة مؤتمر للمؤرخين احتفالًا بذكرى تحرير الشعب اليهودي من أسره في بابل. يذكر نراغي أن نبوخذ نصر الثاني احتل القدس وأرسل اليهود إلى المنفى، وأن أَسْرهم في بلاد ما بين النهرين دام أكثر من أربعين سنة، إلى أن استولى قوروش الكبير، ملك الفرس، على بابل في سنة 539 ق.م، أي في السنة نفسها التي أعاد فيها الشعب اليهودي إلى القدس وأمر بإعادة بناء معبدها.
تمتَّعت العلاقات الإيرانية-الإسرائيلية تحت حكم الشاه بروابط قوية. كان الشاه يرى أن الإيرانيين والإسرائيليين هُم في الحقيقة حلفاء طبيعيون في المنطقة، وشركاء استراتيجيون باعتبارهم الشعبين غير العربيين في المنطقة.
كان مؤرخون ومستشرقون إيرانيون قد دُعوا إلى هذا الاحتفال الإسرائيلي، واستغل هذه المناسبة المستشار الثقافي للبلاط، الذي كان يعرف جنون العظمة عند الشاه فطلب مقابلته، مصطحبًا معه مؤرخًا متمكنًا، وأخذ هذا الأخير يدافع عن الفكرة التالية: بدل أن نترك للإسرائيليين حق الاستئثار بذكرى تحرير اليهود في بابل، لماذا لا نستغل الأمر لِنُظهِر عظَمة الملك قوروش الكبير، ونجعل من ذاك اليوم يومًا عظيمًا في التاريخ القديم، مبرهنين على أنّ للملكية أصلًا نبيلًا وقديمًا في إيران؟
هذا الاقتراح بدا خارقًا للشاه، الذي كان لا يزال يعاني من آثار صراعه السابق مع محمد مصدّق الذي أمّم النفط الإيراني وأطاحت به المخابرات الأمريكية والبريطانية، وهرب الشاه في هذه الأحداث وعاد بعد سقوط مصدق.
رأى الشاه أنّ هذا الحدث قد يساعده على أن يبرّر حكمه الفردي، مستنجدًا بملكية قديمة العهد في التاريخ، ثمّ إنّه يستطيع أن يلجأ، ضِمْن المطالب التي تتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان، إلى التذكير بالحماية التي خصّ بها قوروش الكبير الأقليات، خصوصًا اليهود، وإلى إعلانه الأول عن حقوق الإنسان. من جهة أخرى، كان باستطاعة الشاه، سائرًا على خطى أبيه المناهضة للعرب والإسلام، أن يمعن في فصل مصير الشعب الإيراني عن مجموع العالم الإسلامي.
يلخص الكاتب أندرو كوبر في كتابه “سقوط السماء.. العائلة البهلوية والأيام الأخيرة للإمبراطورية الإيرانية” أنّه قبل سنتين، أي في عام 1976، تحدّى الشاه رجال الدين من جديد وغيَّر التقويم الإسلامي الرسمي. كان يريد أن يبدأ التقويم، لا من اليوم الذي هاجر فيه النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، بل من ولادة الإمبراطورية الأخمينية، أي قبل ألفين وخمسمئة سنة. كانت لدى الشاه رغبة في الرجوع إلى ما قبل الإسلام. أراد أن يتميّز عن العالم العربي وأن يلتحق بنسب قوروش لكي يخفف الطابع الإسلامي للشعب الإيراني.
أمّا الحماقة الثانية للشاه فقد كانت الموافقة على اعتماد المقترح بإلغاء التقويم الإسلامي الهجري واستبدال التقويم الإمبراطوري الفارسي به، وهو التقويم الذي يعود بتاريخه إلى سنة تتويج كورش العظيم عام 559 ق.م.
وتسببت هذه البادرة بتوجيه إهانة لا داعي لها إلى المحافظين المتديِّنين، فضلًا عن الإرباك الذي تسببت به للناس. لقد ذهب الإيرانيون إلى فراشهم عام 1355، ليصحوا في اليوم الثاني وهُم في عام 2535. وإلى ذلك الوقت، صار واضحًا أنّ الشاه ورئيس وزرائه قد مضى عليهما وقت طويل وهُما في عزلةٍ حقيقية عن الناس.
كلّ هذه الاحتفالات ذكّرتني بكلمة ابن خلدون أنّه ترف يؤذن بخراب العمران، وهو ما حدث بفناء ملك الشاه وسقوطه وصعود نجم الخميني والثورة الإسلامية في إيران.
أختم بالتذكير بهذا الترف الذي وصفه أنيس منصور في كتابه “أعجب الرحلات في التاريخ” عن هذه الاحتفالات حيث يصف “الولائم الضخمة الفخمة التي أُقيمت للملوك والرؤساء وأريقت فيها أنهار من الشمبانيا والكونياك. وطار الطاووس من الهند، تسعون طاووسًا، وذهبت إلى باريس، ومن باريس جاءت إلى مدينة الخيام المصنوعة من البلاستيك والجلد والقطيفة الذهبية، والفنادق التي أقيمت لأول مرة في صحارى قاحلة، والغابات التي نُقلت، والجرسونات، 500 جرسون، من مطعم ماكسيم في باريس، وأشياء أخرى عجيبة لم تحدث في أيّ عصر من عصور التاريخ”.


