Blog

من الكوميديا إلى المنفى.. رحلة محمد أوسو

نوفمبر 5, 2025

من الكوميديا إلى المنفى.. رحلة محمد أوسو

 

في وقتٍ وزمنٍ لم تكن الشاشات السوريّة تفيض إلا بمسلسلات التطبيل والدراما النظيفة كما تُسمّى، خرج شابٌّ نحيل بملامح بسيطة وأسلوبٍ وصوتٍ ساخرين يقول ما لم يجرؤ غيره على قوله، محمد أوسو، المولود في دمشق عام 1978، لم يكن مجرّد ممثل كوميدي، بل كان كاتباً يفضح الوجع بلغة الضحك، في أعماله الشهيرة مثل “بكرا أحلى” و”كسر الخواطر”، ابتكر شخصيات من لحم الناس، كـ”سلطة” الذي حلم بالكرامة وسط العجز، و”كسمو” الذي بحث عن معنى الحياة في مدينةٍ فقدت طيبتها، لم يكن يُضحك من السوريين، بل يضحك معهم، على حالهم الذي كان يُدرك أنّه سينفجر يوماً.

حين اندلعت الثورة عام 2011، لم يختبئ محمد أوسو خلف شهرته، بل خرج في المظاهرات الأولى في دمشق، واعتُقل بسبب مواقفه، بعد الإفراج عنه، غادر البلاد بصمت، وترك وراءه فراغاً فنياً لا يُملأ.. اليوم، وبعد تحرير سوريا من نظام الأسد البائد الذي حاربه بالكلمة والابتسامة، يعود السؤال إلى الواجهة: أين هو محمد أوسو؟

هل اكتفى بالصمت بعدما قال ما يكفي؟ أم أنّ لديه ما يقوله لسوريا الجديدة التي طالما حلم بها؟ في هذا المقال، نحاول استعادة ملامح الفنان الذي ضَحك ضدّ الخوف، وبقي رمزاً لجيلٍ ما زال يبحث عن معنى الحرية.

 

فنان قبل الثورة.. حين كانت السخرية جريمة.

قبل هتاف السوريين في الشوارع، هتف أوسو قبلهم وبطريقته من خلال نصٍّ ساخرٍ أو مشهد قد تلعثم فيه البطل خوفاً من شرطي لا يراه، كان وحده تقريباً من تجرّأ على تحويل الخوف إلى نكتة، والوجع إلى ابتسامة، منذ بداياته، بدا واضحاً أنّ هذا الشاب الدمشقي لا يكتب ليُضحك فقط، بل ليكشف هشاشة المجتمع في ظل نظامٍ يكره المرآة.

“سلطة” و”كسمو” لم يكونا مجرد شخصياتٍ على الشاشة، بل مرايا لطبقةٍ مسحوقة، تتقن السخرية لأنّها لم تعد تملك سلاحاً آخر. كان محمد أوسو ناطقاً باسم الفقراء من دون أن يرفع شعارات، وصوته كان أقرب إلى الهمس المتمرّد: ضحكنا عليه، ثمّ اكتشفنا أنّه كان يضحك من أجلنا.

حين كتب نصوصاً لاحقة مثل سالب وموجب، مُنعت أعماله من العرض لأنّها “تحمل تلميحات سياسية”، كما قال مسؤولو الرقابة يومها عام 2009، الحقيقة أنّ السُّلطة كانت تفهم تماماً ما بين السطور، وتعرف أنّ أوسو رغم بساطته أخطر من عشرات الخُطباء: فهو يزرع الشك بالابتسامة.

هكذا صار في نظر نظام الأسد البائد “خطراً ناعماً”، كاتباً يُحرّك الوعي من خلف الكوميديا، محمد أوسو مارس المعارضة قبل الثورة، وبأسلوبٍ لا تُدركه الأجهزة الأمنية إلا متأخرة، لم يكن معارضاً سياسياً بالمعنى الحزبي، بل فناناً آمن أنّ الضحك هو الوجه الآخر للكرامة، وأنّ الصمت في زمن الاستبداد خيانة للمواهب قبل أن تكون خيانة للوطن.

 

من الكوميديا إلى الثورة.

عند انطلاق الشرارة الأولى للثورةِ السوريّة عام 2011، لم يتردّد أوسو في خروجه بجانب أهله والهتاف معهم، وما كان من أولئك الذين يختبئون خلف ما سموه بالحياد المزيّف أو يختارون بحجة الفن، بل كان أوسو واضحاً تماماً.

لم يكن من أولئك الذين يختبئون خلف “الحياد” المزيّف أو يختارون الصمت بحجة الفن، بل كان واضحاً تماماً: الرجل الذي واجه السلطة بالنكتة، قرّر أن يواجهها هذه المرّة بالصوت.

 من يعرف ملامحه في “كسر الخواطر” يدرك أنّ هذا الوجه، الذي علّم السوريين كيف يضحكون على القهر، كان يحمل منذ البداية بذرة الغضب ذاته.

تداول أصدقاء له شهادات كثيرة عن مواقفه في الأيام الأولى للحراك، وعن حضوره في مظاهرات دمشق، وعن اعتقاله لفترة قصيرة بسبب نشاطه ومساعدته لعائلات مهجّرة من حمص، تحدّث لاحقاً في أكثر من مقابلةٍ عن تلك المرحلة قائلاً: إنّ “الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع، حتى لو دفعت ثمنها”، لم يكن مناضلاً محترفاً ولا سياسياً، بل إنساناً تعب من التمثيل في واقعٍ يكتب نصوصه الاستبداد.

بعد الإفراج عنه، بدأ التضييق الحقيقي، داهمت الأجهزة منزله أكثر من مرة، وتحوّل اسمه إلى “ممنوع من الظهور”، عندها فهم أوسو أنّ اللعبة انكشفت، وأنّ نظام الأسد البائد الذي سمح له بالسخرية من الفقر، لم يكن ليسمح له بالسخرية من الظلم، خرج سراً من البلاد، لاجئاً في المنفى، لا يملك سوى اسمه وذاكرة الناس.

محمد أوسو لم يكن بطلاً على الشاشة فقط، بل بطلاً مدنياً دفع ثمن الكلمة، لم يحمل سلاحاً، ولم يصرخ في الفضائيات، لكنّه أدرك أنّ أخطر أنواع المقاومة هي أن تظل إنساناً حين يريدونك أن تكون صامتاً، لقد مارس الثورة على طريقته: بالابتسامة التي لم تُهزم، وبالضحك الذي ظلّ عصيّاً على الرقابة حتى وهو في المنفى.

 

في المنفى.. فنان خارج الشاشة.

لم يغادر محمد أوسو بلده بحثاً عن شهرةٍ جديدة، بل هرب من ضجيجٍ لم يعد يشبهه، المنفى لم يكن له محطة عبور، بل جرحاً طويلاً اسمه الغياب، حين خرج من سوريا سراً بعد ملاحقاتٍ واعتقالٍ قصير، حمل معه حقيبة صغيرة وبعض الأوراق التي لم تُعرض على التلفزيون يوماً، كان يعرف أنّه يترك وراءه مدينته وذاكرته، لكنّه لم يتوقع أن يترك أيضاً الشاشة التي منحته صوته.

في الخارج، حاول أوسو أن يبدأ من جديد، أطلق قناة على “يوتيوب”، تحدّث فيها عن تجربته، وكتب مشاريع لم تكتمل، كأنّ القدر أراد أن يمدّد صمته الفني.

المنفى عند أوسو ليس فندقاً في مدينةٍ تركية، بل حالة وجودية: أن تفقد جمهورك لأنّك صدقت، وأن يُعاقبك الفن لأنك كنت إنساناً أولاً.. صار خارج الشاشة، لكنّه لم يخرج من ذاكرة السوريين الذين كبروا على ملامحه البسيطة وضحكته الخجولة.

محمد أوسو اليوم هو رمزٌ لفنانٍ لم يخن فكرته، وإن خذلته الكاميرا، في زمنٍ تتسابق فيه الأصوات للعودة إلى أضواءٍ باهتة، بقي هو في الظلّ، لا لأنّه انتهى، بل لأنّه اختار أن يظل نقيًّا، ربما لم يُعرض آخر عملٍ له، لكنّ قصته هي العمل الأصدق: حكاية فنانٍ آمن أنّ الحرية لا تُؤدَّى على المسرح، بل تُعاش ولو في المنفى.

 

محمد أوسو في الذاكرة السورية الجديدة.

مع سقوط نظام الأسد البائد، بدأ السوريون يسترجعون شيئاً من ذاكرتهم الفنية، وظهر اسم محمد أوسو كواحدٍ من الرموز التي لم تخذل جمهورها.

مقاطع من “كسر الخواطر” و”بكرا أحلى” و”هارون” ولوحات من “مرايا” ومسلسله الحديث خلال الثورة “الأعدقاء” أعادت إلى الشاشة الوجوه التي تعلّقنا بها، لكن هذه المرّة ليس من أجل الضحك فحسب، بل من أجل حنينٍ إلى صدق فنه ومواقفه الإنسانية، كلّ مقطعٍ متداول أصبح تذكيراً بأنّ الفنان لا يُقاس بعدد المشاهدات أو الإعلانات، بل بما يفعله أو يرفض فعله عندما يُخضعه الظلم لاختبار حقيقي.

في النقاشات التي انطلقت على منصات التواصل، ظهر تصنيف جديد: هناك من الفنانين الذين اختاروا التطبيل طوال سنوات الظلم، واعتُبروا “أحياء” على الشاشة لكنّهم غائبون في وجدان الناس، وهناك من اختار الغياب بشرف، مثل أوسو، ودفع ثمن الكلمة والضمير، فظل اسمه حيّاً في ذاكرة السوريين، المقارنة ليست للانتقاص من أحد، بل لتسليط الضوء على المعايير الحقيقية للعدالة الثقافية في زمن العدالة الانتقالية: لا تُقاس الأعمال الفنية بعدد الحلقات أو الإيرادات، بل بمدى صدق المواقف التي تمثلها.

محمد أوسو اليوم يمثل نموذجاً فنياً وأخلاقياً، فنان لم يُغادر الساحة في ذهن جمهوره، رغم سنوات الغياب، ولم يساوم على موقفه.

 الناس يتذكرونه ليس لأنّه ضحك لهم، بل لأنّه وقف معهم حين لم يقف أحد.. وفي هذا السياق، يصبح الحديث عن “عودة الفنانين الحقيقيين” ليس مجرّد استعادة نجوم الشاشة، بل استدعاء الضمائر، وتقدير من رفضوا الانحناء أمام الظلم، مهما كانت تكلفة ذلك.

أين هو محمد أوسو اليوم؟ قد لا تجده على الشاشات أو في أروقة الإعلام، لكنّه حاضر بقوة في ذاكرة السوريين الذين تعلّقوا بفنه ومواقفه.

هكذا، في سوريا الجديدة، يقاس الفنان بما اختاره في أصعب اللحظات، وبقوة موقفه أكثر من قوة النصوص التي كتبها.

 محمد أوسو، بفنه وغيابه وصموده، ليس مجرد ذكرى، بل معياراً للوفاء للفن والوطن معاً، وتذكيراً بأن الضمير أهم من الشهرة، وأن المسرح الحقيقي يبدأ حين تُغلق الكاميرات وتُفتَح القلوب.

 

شارك

مقالات ذات صلة