Blog

أبناء البارود: من أطفال الجنجويد إلى رجال الدعم السريع!

نوفمبر 4, 2025

أبناء البارود: من أطفال الجنجويد إلى رجال الدعم السريع!

 

شهادة الصحفية رشا قنديل

 

حين يُثقَل الطفل بلفح بارودة تطاوله مرتين، وتكبره بسنوات سوداء لعينة أُثقل بها أكم من طفل سقاها بدمه لتُسلّم لآخر يصغره ويليه… ليُصفّ قسرًا على خط القتال… يتهجّى مفردات القتل بأنامل لا تميّز الصدور العدوّة… يقتل كي لا يُقتل… ثمّ يقتل ليلهو… ثم لا ينام فيقتل… ثم يحترف القتل… وإذا أخطأه أنمل طفل آخر يستميت على البارودة… لم تخطئه لعنة اعتياد القتل… وإلا صفّاه أمراء الحرب… فثمنه ظرف بخمسة عشر فلسًا… طفل التجنيد القسري… الرخيص آنذاك… مجرم حرب اليوم… وفي الفاشر… لو استُنطقت الأرض المعجونة بدماء الأطفال لشهدت… أن دارفور شربت دماء زكية حريٌّ بها سودانٌ آمِن يئنُّ لسلام لا يستقيم.

 

الفاشر ٢٠٠٥.

في صيف عام ٢٠٠٥ وصلت إلى الفاشر، كنت قد استقلت من القسم العربي في مؤسسة بي بي سي في القاهرة  لألتحق  بالمؤسسة ذاتها بالخدمة العالمية في لندن، والتحقت  إلى جانب رحلاتي المكوكية بين القاهرة ولندن خارج المؤسسة الأم بمشروع يضم عددًا كبيرًا من المراسلين في دارفور لرصد تجنيد الأطفال بين شقي رحى الحرب الطاحنة في دارفور. وصلت الفاشر بقلب فتي لم يعتد بعدُ زفارة الدماء في الماء والهواء، ولم يألف التحسب لعيون صغيرة مستأسدة على حواجز التفتيش. الفاشر كانت آنذاك قلب دارفور النابض بالبارود، رمزًا مبكرًا لانهيار الدولة في مواجهة العنف المسلّح. كنت هناك كمراسلة شابة أحمل دفترًا صغيرًا وعدسةً تبحث معان فلسفية عميقة.. بينما الواقع الطفل كان كالمحار المغلق.. بحاجة فقط لنظرة صغيرة إلى الداخل.. لتنكشف الصدفة الحبيسة المتألمة.. وكان أقرب من أيّ بعدٍ وأهم من أيّ عمق..

 

ما رأيته لم يكن مجرّد حرب، بل ميلاد جيل جديد من المقاتلين الأطفال — صبية يحملون بنادق أطول من أجسادهم، يضحكون مرتين كأنّهم في لعبة، ثمّ يسقطون كأنّهم لم يكونوا من المبتدأ. ومع امتداد الحرب وتراجع سلطة الجيش النظامي، بدأ الخط الفاصل بين الدولة والميليشيا يختفي. صارت الرتب تُمنح بالولاء لا بالكفاءة، والمال يحكم موقع السلاح لا القانون. كانت دارفور أول مختبر حقيقي لهذا التفكك؛ فحين تخلّت الدولة عن احتكار القوة، وُلدت الميليشيا بوصفها الشكل الوحيد للسلطة الممكنة. في تلك اللحظة تبدّل معنى الانتماء: صار الولاء للقبيلة أقوى من العلم، والانخراط في القتال أسرع طريق للنجاة، بل وللترقي الاجتماعي. ومن رحم هذا الانهيار خرجت قوات الدعم السريع كظلّ للدولة التي لم تعد قادرة على حماية نفسها، فابتلعتها.

 

أطفال الجنجويد.

أحدهم، لم يتجاوز الرابعة عشرة، دفع السؤال ببارودته فأتت إجابته على ضيق لفح وجهي؛ إجابة بديهية عن سؤال مراسلة لم تعتد بعد رحيق الموت. تردّدت إجابته المريرة بصوتٍ لم أصدق طفولته، وكلّ هذا الموت فوق كتفيه، فثبّتت في ذاكرتي كالفأل السيئ:

«نقاتل لأننا إن لم نقاتل سنُقتل.»

حينها أدركت أنّ الحرب في عينيه  القتيلة ليست حدثًا، بل تربية. هناك، في مخيّمات الجنجويد، كان يُعاد تعريف الطفولة نفسها: من زمن اللعب إلى زمن الإجرام.

في تلك السنوات كنّا نوثّق عبر التدوين الإذاعي والتحقيق الميداني عمليات تجنيدٍ صريحة: شيوخ يجمعون الصبية، قيادات محلية تتقاضى مقابلًا، ووعودٌ زائفة بالعيش والكرامة تُبدَّل ببندقية وراتب زهيد. الطفل لم يُختَر ليُقاتل، بل خُطف اجتماعياً، أُقنِع أو أُرْغِم أو أُشرِف عليه كجزء من نظام محلي —اقتصادي وسياسي— يحوّل العنف إلى مصدر ربح وبقاء.

بعد عامٍ واحد فقط، وثّقت بعثات الأمم المتحدة ولجان الخبراء مئات الحالات لتجنيد أطفال في مناطق دارفور الغربية، بعضهم لم يتجاوز الثانية عشرة. كانت المعسكرات تُقام في أطراف المدن الكبرى، ويُستدرج الأطفال بوعد الطعام أو الحماية من القصف، بينما كانت الميليشيات تستفيد من فراغ الجيش النظامي لتؤسس لنظامٍ موازٍ. تحوّل الطفل المجنّد إلى وحدةٍ عسكرية متنقلة، قابلة للبيع والشراء، تتبع من يدفع أكثر وتقاتل في أيّ جبهةٍ تُؤمر بها.

ومع مرور الأعوام، صار هذا النمط التجاري من الحرب جزءًا من الاقتصاد المحلي: تُباع الذخائر في الأسواق، وتُدفع الأجور نقدًا أو بالماشية، وبدأت العائلات تتباهى بأبنائها المقاتلين كما يتباهى آخرون بخريجي الجامعات. وهكذا نشأت ثقافة «المقاتل الصغير»، ثقافةٌ تمجّد السلاح وتستبدل التعليم بالثأر، والكتاب بالكلاشينكوف. من رحمها خرجت لاحقًا قوات الدعم السريع؛ الميليشيا التي وُلدت من تزاوج الطفولة المسلّحة مع سلطة المال.

 

هوية السلاح.

لم يكن التجنيد صدفةً، بل سياسة مُدارة. شيوخ القبائل يتلقّون الدعم، والقيادات المحلية تبرّر، والحكومة المركزية تغضّ الطرف أو تعجز أمام معادلة المال والثأر. المبرّر كان دائمًا واحدًا: «الطفل يعرف الصحراء أكثر من الجندي النظامي.» لكن الحقيقة أنّ الطفل كان يُختطف من مستقبله ليُربَّى على الطاعة والرصاص، حتى صار السلاح امتدادًا للهوية.

 

اعتصار الفاشر ٢٠٢٥.

اليوم، وأنا أتابع صور الفاشر من القاهرة، أدرك أنّ ما يحدث ليس «انهيارًا جديدًا»، بل استمرار منطقي لسياسة قديمة. العالم الذي تواطأ في صمت أمام أطفال دارفور الذين جُنّدوا قبل عقدين يصمت اليوم أمام رجالٍ يحملون الاسم نفسه والسلاح نفسه. قوات الدعم السريع ليست ظاهرة طارئة؛ إنّها نتاج طبيعي لتطبيع الحرب جيلاً بعد جيل، دون حساب أو مساءلة. ما كان يُسمّى «تجنيد أطفال» صار يُسمّى «تعبئة شباب». ما كان يُعدّ جريمة صار يُقدَّم بوصفه بطولة. تغيّرت اللغة فقط، أما الدم فهو ذاته.

 

الوكلاء: أمراء الحرب الحقيقيون.

في الفاشر اليوم تتصارع الجيوش والميليشيات، لكن جوهر المعركة أعمق من السياسة: المحرضون هم أمراء الحرب الحقيقيون، ودماء الأطفال في أعناقهم يوم القيامة. هم نافخو الكير؛ تتبدّل هوياتهم لكن مقاصدهم واحدة: الحفاظ على منظومة ربحٍ من العنف. أمّا حاملو السلاح فهم وقود الحرب، وأبناؤهم ضحاياهم. إنّها حرب أبناءٍ وُلدوا من رحم الحرب الأولى ضد آباء ورّثوهم الخوف والسلاح. جيلٌ كامل يعيش بلا ذاكرة سوى ذاكرة الخسارة. ولأنّ أحدًا لم يُحاسب على جريمة تجنيد الأطفال في ٢٠٠٥، صار الإفلات من العقاب النظام السياسي الفعلي في السودان. هذه الحرب لا تُخاض بالسلاح وحده، بل بغياب العدالة؛ في كلّ مرّةٍ يُترك فيها طفل يحمل بندقية، يُزرع جندي جديد في المستقبل. لذلك حين تشتعل الفاشر اليوم، لا تشتعل مدينة فحسب، بل ذاكرة كاملة لم تُشفَ.

 

في ذاكرتي صبي.

أتذكر صبيًا صغيرًا ربط حول خصره حبلًا كزنّار، وضع فيه رصاصتين وقال لي مبتسمًا: «كفاية.» ركض نحو الصحراء، ولم أره ثانية. لم أعرف إن كانت «كفايته» في جيبه أم في صدره. ربما مات، وربما صار قائدًا في ميليشيا. لكنّه يبقى شاهدًا على حقيقةٍ واحدة: حين سمحنا لطفلٍ واحد أن يتعلّم الحرب، حكمنا على جيلٍ كامل أن يعيشها إلى الأبد.

 

عالم ذليل.

العالم ما زال يُصدر البيانات ذاتها: «قلق عميق؛ دعوة إلى ضبط النفس؛ ضرورة وقف الأعمال العدائية.» لكن أحدًا لا يطرح السؤال الأهم: كم من أولئك الأطفال صاروا قادة حرب؟ وكم من أبنائهم يقاتلون اليوم في الدائرة نفسها؟ الفاشر اليوم ليست مدينة منكوبة فقط، بل مرآة ضميرنا. تفضحنا جميعًا: إعلام نسي، أنظمة استثمرت في العنف، وعالم اكتفى بالمشاهدة. حين يُقال إنّ دارفور انهارت، أقول: لم تنهَر؛ بل اكتملت. ما نراه الآن هو الجيل الثاني للحرب، الجيل الذي لم يتعلّم إلا البقاء بالبارود.

من يكتب عن الفاشر اليوم لا يكتب عن مدينةٍ بعينها، بل عن نموذجٍ لوطنٍ أضاع نفسه في دوامة العنف. فالحرب التي تبدأ في دارفور لا تنتهي عند حدودها، بل تزحف إلى الخرطوم والذاكرة العربية بأكملها. وإذا كانت الطفولة أولى ضحاياها، فإنّ الصمت الدولي هو شريكها الأبدي. لذلك تبقى الفاشر نداءً مؤجلاً في ضمير العالم: كفى، لأنّ الطفولة التي تُستباح مرة، تُستباح إلى الأبد.

 

وعد شرف.

أكتب اليوم كما وعدت ذلك الطفل قبل عشرين عامًا: «سأكتب.» أكتب لأنّ دارفور ليست خبرًا على شريطٍ عاجل، بل درس في كيف تنشأ الميليشيا من رحم الطفولة، وكيف يتحوّل التجاهل الدولي إلى تواطؤ تاريخي. أكتب لأنّ الفاشر ليست حربًا جديدة فحسب، بل ذاكرة لم يُرِد أحد أن يتذكّرها. وحين يُساق الأطفال للحرب وحيدين… يُقتلوا وحيدين… وإذا كبروا… لا يستطعمون إلا الدم والسعير… فكفّوا يد الشر عن الفاشر… فقد فاض كيلها من أمهاتٍ ثكالى وأيتامٍ لا أب لهم إلا الثأر والبارود.



شارك

مقالات ذات صلة