اقتصاد

الشتاء في الخيام يختبر وعود الإعمار

نوفمبر 4, 2025

الشتاء في الخيام يختبر وعود الإعمار

بين خيامٍ مهترئة تتسلل إليها الرياح الباردة، ووجوهٍ أنهكها الانتظار، يستعد أكثر من مليون ونصف نازح في شمال سوريا لاستقبال شتاء جديد لا يختلف كثيراً عن سابقيه، سوى أنّه يأتي بعد نحو 11 شهراً على سقوط نظام بشار الأسد في 8 كانون الأول/ ديسمبر من العام الماضي 2024. ورغم الآمال التي رافقت التغيير السياسي في البلاد، إلا أنّ واقع المخيمات يبدو أشد قسوة من أيّ وقتٍ مضى، مع غياب الدعم الإنساني وتراجع مشاريع الإغاثة، وتردد الحكومة السورية الجديدة في إعلان خطة واضحة لتأمين احتياجات النازحين أو إعادة إعمار مناطقهم المدمّرة.

 

فما مدى قدرة الحكومة الجديدة على التعامل مع إحدى أكثر الأزمات الإنسانية تعقيداً في تاريخ سوريا الحديث؟ وهل يمكن لشراكاتها مع المنظمات الدولية أن تخفف وطأة الشتاء القادم على مئات آلاف العائلات التي ما زالت تعيش على أمل العودة إلى منازلها؟

حكومة جديدة.. وأزمة قديمة.

 

منذ سقوط نظام الأسد في نهاية عام 2024، ورغم الخطابات الحكومية التي تحدثت عن “خطة وطنية لإعادة الإعمار وعودة النازحين”، يشير الواقع الميداني إلى أنّ هذه الخطة ما تزال حبراً على ورق. فمعظم المناطق التي شهدت معارك أو دماراً واسعاً، كإدلب وحلب وريف حماة، ما تزال غير مؤهلة للعودة، فيما يعاني النازحون في المخيمات من فجوةٍ إنسانية متزايدة بعد توقف جزء كبير من المساعدات الدولية بسبب التحولات السياسية في البلاد.

 

ووفقاً لتقرير فريق “منسقو استجابة سوريا”، فإنّ أكثر من 1.521 مليون مدني ما يزالون يعيشون في المخيمات شمال البلاد، أي ما يعادل 75.18% من العدد الكلي السابق، رغم بعض حركات العودة المحدودة إلى المدن والقرى. السبب الرئيسي لبقاء هذا العدد الكبير، بحسب الفريق، هو الدمار الهائل في المناطق السكنية، وعدم قدرة النازحين على ترميم منازلهم أو تحمل تكاليف المعيشة خارج المخيمات.

 

ويؤكد التقرير أنّ أكثر من 95% من العائلات غير قادرة على تأمين مواد التدفئة للشتاء القادم، فيما ارتفعت أسعار الوقود والمازوت بنسبةٍ كبيرة مقارنة بالعام الماضي، في وقتٍ لا يتجاوز فيه متوسط الدخل الشهري للعائلات 50 دولاراً أمريكياً.

 

أزمة تتكرّر كلّ شتاء.

 

يقول تقرير منسقي الاستجابة إنّ الشتاء الماضي شهد عدم حصول 83% من النازحين على مواد التدفئة، ما أدى إلى انتشار واسع للأمراض التنفسية، فضلًا عن حرائق متكرّرة في المخيمات نتيجة استخدام مواد تدفئة بدائية وغير صالحة. كما سجلت المنظمة أضراراً جسيمة في 357 مخيماً بسبب العواصف المطرية والثلجية، تضرر فيها أكثر من 115 ألف مدني.

 

ومع اقتراب الشتاء الجديد، تبدو المؤشرات أكثر سوءاً، إذ يشير الفريق إلى أن 71% من نازحي المخيمات يسعون إلى تقليل احتياجاتهم الأساسية، وخاصة الغذاء، في محاولة لتوفير بعض المال لشراء مواد التدفئة. ويضيف التقرير أنّ الانقطاعات الواسعة في الدعم الإنساني أدت إلى تراجع مشاريع الإغاثة والمأوى والنظافة العامة، ممّا يهدد بكارثة إنسانية وبيئية في آنٍ معاً.

 

أصوات من داخل المخيمات.

 

في مخيم “مشهد روحين” بريف إدلب الشمالي، تجلس حنان حاج طه أمام باب غرفتها الصغيرة المغطاة بالبلاستيك السميك، تتذكر مدينتها المدمّرة معرة النعمان وتقول لمنصة “سطور”: “هناك أسباب كثيرة منعتني من العودة، أولها أنّ منزلي مهدم بالكامل وليس لدي أيّ مبلغ لترميمه. الغرفة التي أعيش فيها هنا تفتقر إلى كثير من الخدمات، لكنّها على الأقل تمنحنا سقفاً نحتمي به. الشتاء الماضي قضيناه بلا تدفئة، وأطفالي مرضوا طيلة شهور. أعاني كلّ شتاء من آلام المفاصل بسبب البرد والرطوبة، ولا أملك ثمن العلاج”.

 

حنان ليست حالة فردية، بل نموذج لآلاف النساء اللواتي يتحملن عبء إعالة أسرهن داخل المخيمات. وتقول إنّ المساعدات التي كانت تصل من المنظمات توقفت تقريباً منذ أشهر، وأنّ كثيراً من العائلات أصبحت تعتمد على الحطب والنايلون كمصدرٍ للتدفئة رغم مخاطرها الصحية والحرائق التي تتسبب بها.

 

مديرو مخيم: “لا مشاريع ولا دعم”.

 

أمّا عبد السلام اليوسف، مدير مخيم “أهل التح” في منطقة باتنتا بريف إدلب الشمالي، فيؤكد أنّ الواقع داخل المخيمات “أصعب مما يُتَصوَّر”، ويقول في حديثه لمنصة “سطور”: “الوضع النفسي للناس متدهور جداً بعد التحرير. كثير من الأهالي الذين عادوا إلى قراهم اكتشفوا أنّ بيوتهم مدمرة أو مسلوبة فعادوا إلى المخيمات من جديد. حتى المخيمات المنظمة ذات البنية الاسمنتية أصبحت غير صالحة للسكن، لا أبواب ولا نوافذ ولا عزل من البرد”.

 

ويضيف اليوسف أنّ توقف أغلب المنظمات الإنسانية عن العمل داخل المخيمات “أفقد الناس الأمل تماماً”، قائلاً: “لا توجد مشاريع إغاثية أو مأوى أو حتى ترحيل قمامة. اليوم نطلق نداءً لكلّ المنظمات والأمم المتحدة بالالتفات من جديد إلى هذه الخيام. الناس بحاجةٍ إلى الغذاء والدواء والملابس الشتوية وكلّ ما يمكن أن يساعدهم على تجاوز الشتاء”.

 

ويحذر اليوسف من أنّ بعض العائلات بدأت بالعودة إلى المخيمات مجدداً بعد أن فشلت محاولاتها في إعادة إعمار منازلها في ريفي إدلب الجنوبي ومعرة النعمان الشرقي، مضيفاً: “وجدوا أنّ كلّ شيء مدمر من بيوت وأراضٍ، فاضطروا للعودة إلى المخيمات القريبة من المدن حيث المدارس والخدمات والمشافي. الوضع مأساوي بكل المقاييس”.

 

العودة إلى الدمار: شهادة من ريف حماة.

 

من جهةٍ أخرى، حاول بعض النازحين العودة إلى قراهم في ريف حماة الشمالي رغم الدمار الواسع.

يقول محمود الحسين، الذي عاد من مخيمات أطمة إلى بلدته كفرزيتا، في حديث لـ”سطور”: “لم أحتمل البقاء في المخيم أكثر، الخيمة هناك لم تعد تقي برد الشتاء ولا حر الصيف. عدت إلى منزلي المدمر ونصبت خيمة داخله. الوضع صعب جداً، لا ماء ولا كهرباء ولا مدارس. لكنّي على الأقل أشعر أنّي في أرضي وبين جيراني الذين بقوا”.

 

ويضيف: “أحاول منذ شهور ترميم جزء من البيت لكن أسعار مواد البناء مرتفعة جداً. لم نتلق أي دعم من الحكومة أو المنظمات. حتى المساعدات الغذائية توقفت. كأنّنا لسنا ضمن أولويات أحد”.

 

شهادة محمود تعكس التحدي الأكبر الذي يواجه العائدين، إذ تتحوّل مناطقهم إلى خراب مفتوح بلا خدمات ولا بنية تحتية، ما يدفعهم في نهاية المطاف للعودة مجدداً إلى المخيمات.

 

اقتصاد هش وفقر مدقع.

 

يعيش معظم سكان المخيمات في ظل اقتصاد هش يعتمد على المساعدات الموسمية أو العمل اليومي بأجورٍ متدنية. ووفقاً لتقرير “منسقو استجابة”، فإن 88% من العائلات لا يتجاوز دخلها الشهري 50 دولاراً، ما يجعل الحصول على وقود التدفئة أو حتى الغذاء الكافي أمراً شبه مستحيل.

 

وتشير دراسات محلية إلى أنّ توقف المشاريع الإغاثية أدى إلى زيادة معدلات الفقر بنسبة تتجاوز 70% في شمال غرب البلاد، مع ارتفاع أسعار المواد الأساسية بنسبة تتراوح بين 30 و50% خلال الأشهر الأخيرة.

 

الحكومة الجديدة في اختبار حقيقي.

 

منذ تشكيل الحكومة السورية الجديدة مطلع العام الجاري، تعهدت وزارة الشؤون الاجتماعية والإغاثة بإطلاق “برنامج وطني لدعم النازحين”، إلا أنّ البرنامج لم يتعدّ مرحلة الدراسات حتى الآن. ويقول خبراء إنّ السبب يعود إلى نقص التمويل، وضعف الشراكات الدولية، وغياب التنسيق مع المنظمات المحلية.

 

تحذيرات ودعوات عاجلة.

 

في ختام بيانه، دعا فريق “منسقو استجابة سوريا” جميع المنظمات الإنسانية والأمم المتحدة إلى البدء الفوري بتجهيز مشاريع الشتاء والعمل على تلافي فجوات التمويل الكبيرة لتأمين الدعم لأكثر من مليون ونصف مليون مدني يعيشون في المخيمات. كما حذر من أنّ التأخر في التدخل سيؤدي إلى “كارثة إنسانية حقيقية” في حال استمرار الظروف المناخية القاسية.

 

من جهتهم، يطالب ناشطون محليون بإنشاء صندوق طوارئ وطني بالتعاون بين الحكومة السورية والمنظمات الدولية، يهدف إلى تمويل مشاريع الإيواء وإعادة تأهيل البنى التحتية في المناطق المدمّرة، باعتباره الحل الوحيد لتقليل الاعتماد على المساعدات العاجلة والموسمية.

 

بين الأمل واليأس.

 

بينما يتهيأ الشمال السوري لاستقبال برد الشتاء، تبقى المخيمات شاهدة على الفجوة العميقة بين وعود السياسة وواقع الميدان. النازحون الذين حلموا بعودة قريبة بعد سقوط النظام، يجدون أنفسهم اليوم أمام معركة جديدة: معركة البقاء على قيد الحياة.

 

في نهاية حديثها، تقول حنان حاج طه بصوتٍ متهدج: “لسنا نطلب الكثير، فقط أن نعيش مثل باقي الناس، أن نجد دفئاً في بيوتنا أو خيامنا، وألا نخاف من المطر أو البرد. نريد فقط أن يرانا أحد قبل أن يأتينا الشتاء”.

 

وبينما تتساقط أولى أمطار تشرين على خيام إدلب، يبقى السؤال مفتوحاً: هل ستنجح الحكومة السورية الجديدة في إنقاذ مواطنيها من برد الشتاء، أم سيبقى النازحون وحدهم يواجهون الريح والوحل، كما فعلوا طيلة أعوام الحرب؟

شارك

مقالات ذات صلة