مدونات

الحرب المنسية… إلى أين تتجه السودان بعد سقوط الفاشر؟

نوفمبر 3, 2025

الحرب المنسية… إلى أين تتجه السودان بعد سقوط الفاشر؟

الكاتب: مصطفى نصار

الفاشر ليست الوحيدة… مسارح الجرائم البشعة تمتد إلى مدن الدلنج وكردفان ومدني

صباح يوم الاثنين الموافق 27 أغسطس، أعلنت مليشيا الدعم السريع بقيادة حميدتي السيطرة الكاملة على مدينة الفاشر، عاصمة إقليم شمال دارفور، وهي المدينة التي كانت الملجأ الوحيد للنازحين داخل السودان من مختلف المدن والمناطق التابعة للإقليم، حيث كانت تحتضن وحدها نحو 300 ألف مواطن ضمن ثلاثة ملايين شخص متضرر.

بهذا يكتمل مشهد الهيمنة شبه الكاملة على إقليم استراتيجي يمثّل ربع مساحة السودان تقريبًا بنسبة تقارب 25%، وسط صور مكتملة من المآسي المروعة التي تقترفها الميليشيا منذ أكثر من عامٍ ونصف، في ظل صمت مريب ولا مبالاة غير مبررة تجاه صراع دامٍ قُتل فيه 66 ألف شخص خلال عامين.

أما بالنسبة للجرائم المنظمة، فقد وصلت حالة الاحتضار العمراني في المدن السودانية كافة، وعلى رأسها الفاشر، إلى درجة غير مسبوقة من المجاعة الفتاكة التي استُخدمت كسلاحٍ حربي نتيجة الحصار الخانق، ممّا أدى إلى تعرض أكثر من 150 ألف طفل لخطر المجاعة وسوء التغذية.

كما انتشرت شهادات مروعة عن عمليات قتل ممنهجة لأيّ أشخاص يحاولون جلب أبسط الإمدادات الغذائية، إذ يُقتلون بتهمة الحصول على المستلزمات الأساسية مثل الزيت والمكرونة والشاي والسكر، في محاولةٍ رمزية لكسر الحصار الأشد والأحكم على مدينة كانت معقلاً حضاريًّا أساسيًّا وشوكة صامدة في وجه مليشيا الدعم السريع.

ولا يتوقف الإجرام الوحشي والانتهاك الممنهج عند الفاشر وحدها، إذ تمدد إلى مدن كثيرة وصلت فيها المأساة الإنسانية إلى درجة الاحتضار الفعلي، مثل الدلنج وكردفان وود مدني، حيث تنتشر المجاعة الفتّاكة التي وصفها الباحث الأنثروبولوجي البريطاني أليكس دي وال بأنّها “مرعبة ومخيفة وغير مسبوقة”.

فضلًا عن مظاهر أخرى كغياب البنية التحتية، واستهداف الصحفيين أو اعتقالهم، مثل مراسل الجزيرة معمر إبراهيم في الفاشر، إضافة إلى الإذلال المقصود، والاغتصاب، والتمثيل بالجثث، والإعدامات الميدانية الكثيفة، وانتهاءً بتجارة الذهب المنهوب.

وقد أكد الباحث أسامة أبوزيد في مقالٍ له على موقع “ميدل إيست آي” بعنوان محزن “صراع آخر دامي في السودان، فهل يلتفت إليه العالم؟” على خطورة هذه الممارسات وتداعياتها الكارثية.

علاوة على ذلك، فإنّ سجل الدعم السريع في الإبادات الجماعية في دارفور يدل بوضوحٍ على انعدام الرحمة والضمير، إذ دفعتهم وحشيتهم إلى ارتكاب ممارسات إبادية وجرائم حرب في تلك المدن الثلاث إلى درجةٍ مخيفة وغير مسبوقة في التاريخ السوداني الحديث.

ووفقًا لتحقيق موسع لمحرر التنمية العالمية مارك تاوسنت في صحيفة الجارديان البريطانية، نشر قبل نحو شهر ونصف، يؤكد بالصور الفضائية أنّ حصار الفاشر المرعب أودى بحياة ما بين 1000 و1500 شخص في المدينة الواحدة، وسط استفحال العنف ضد المدنيين العزل في حصار وإبادة جماعية استمرت 700 يوم من القهر والإذلال والموت المتسارع، إلى درجة تطابق الوصف الأممي لكارثتي دارفور في بداية الألفية الجديدة والآن بأنّها “أسوأ كارثة إنسانية في العالم”.

تتميز مليشيا الدعم السريع بسعيها لارتكاب الإبادة في صمتٍ وهدوء، بلا ضجيج إعلامي يوصل جرائمها، أو كما وصفتها الكاتبة البريطانية نسرين مالك بـ”الحرب الصامتة” التي لا يراد لها أن تُفضح، فقط لأنّ فظائعها المزرية والوحشية أوصلت السودان إلى انعدام شبه كامل للحياة العامة الطبيعية.

فقد أُبيد ما هو حي، حتى الحيوانات، وعُلّق البشر بالسلاسل بعد ذبحهم، فضلًا عن بلوغ المجاعة الدرجة الخامسة في مؤشر الجوع العالمي.

بمعنى آخر، أصبحت السودان، وخاصة المدن المحاصرة، على حافة البقاء، بعد أن تحوّلت البلاد إلى ساحة نهب وسرقة لمصالح إقليمية وموازين قوى أعمق وأعقد من أن تُحل دبلوماسيًّا.

معضلة المفاوضات وحل الحرب دبلوماسيًّا… لا نهاية في الأفق

منذ اندلاع الحرب السودانية قبل عامين ونصف تقريبًا، وتحديدًا في إبريل 2023، ارتفعت الأصوات المطالبة بحل الأزمة السودانية عبر المفاوضات الدبلوماسية، إلا أنّ عدة معضلات حالت دون الوصول إلى نهاية حقيقية.

أبرز تلك المعضلات تمثل في موقف مليشيا الدعم السريع، المدعومة والممولة بالكامل من الإمارات، والتي تطالب بدمج بطيء في السلطة على مدى عشر سنوات، ما خلق انقسامًا دبلوماسيًّا وسياسيًّا حول إنهاء الأزمة بين خمس دول هي: مصر والسعودية والإمارات والولايات المتحدة والسودان، فيما عُرف باسم “الرباعي التفاوضي”.

على مدار تلك الفترة، عُقدت مؤتمرات دولية عدة في سويسرا والمملكة المتحدة وفرنسا والبحرين، قبل حتى تشكيل الرباعي الحالي.

وانتهت آخر محاولة لهم بإصدار بيان مشترك عقب مؤتمر البحرين المنعقد في الأسبوع الأول من الشهر الجاري، بهدف إيجاد حل دائم وشامل ومستدام يضع حدًا نهائيًّا للصراع الدامي في السودان، لكن بقيت الأسئلة الجوهرية بلا إجابات حاسمة، خاصة بعد لقاء الفريق البرهان مع مسعد بولس، كبير مستشاري الشؤون العربية والأفريقية للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.

تظلّ الأسئلة المتعلقة بالأزمة السودانية مركبة ومعقّدة نظرًا لتعدد أبعادها السياسية والعسكرية.

فعلى سبيل المثال، لا يزال مصير الجرائم البشعة في المدن المحاصرة مجهولًا، كما يبقى موقف الإمارات، التي وصفها الصحفي البريطاني أوسكار ريكيت في تقريره بموقع ميدل إيست آي بأنّها “المغذي للحرب السودانية”، موضع جدل.

ويتفق معه باحثان من مؤسسة راؤول والينبرغ، معتصم علي ويوناه دايموند، في مقال لهما بمجلة فورين بوليسي بعنوان “هل تستطيع الإمارات إيقاف الحرب في السودان؟”، إذ خلصا إلى أنّ الحرب الكارثية تمثّل للإمارات “غنيمة ذهبية” من حيث الثروات والمعادن والطاقة، لذلك لا مصلحة لها في إيقافها ما دامت تحقق منها نفوذًا موازيًا لدورها الإقليمي في غزة والسودان واليمن.

إضافة إلى ذلك، تواجه أطراف الرباعي نفسه توترات متبادلة حيال الملف السوداني.

ففي حين تدعم مصر المؤسسة العسكرية الرسمية بالتوافق مع السعودية، فإنّ الإمارات دعمت الحكومة الموازية التي أعلنها حميدتي في أغسطس الماضي، مستغلة ذلك لإشعال الخلافات مع مصر ومحاولة تهميش المفاوضات لأجلٍ غير مسمى.

وبذلك تتعمق الأزمة في ظل انقسام داخلي بين فصيلين متحاربين، وخارجي بين الأطراف الدولية، التي ترفض بالإجماع، بما فيها الولايات المتحدة، فكرة تقسيم السودان أو حتى طرحها.

في المجمل، لا نهاية محدّدة في الأفق بسبب الخلافات العميقة والعوائق غير المدروسة حتى الآن.

فسبيل إنهاء خطر الدعم السريع ما زال مفتوحًا، خصوصًا بعد أن بنت المليشيا سواتر ترابية عازلة وبدأت في إنشاء هياكل مصرفية وسياسية موازية.

وتشير تقارير متعددة إلى أنّ الحرب مرشحة للاستمرار حتى يحقّق أحد الطرفين أهدافه، فهي حرب دامية مأساوية ذات “نافذة ضيقة”، بتعبير الباحث أسامة أبوزيد، لنهايتها السلمية، مع مخاوف حقيقية من التقسيم الفعلي وتكوين “دولة داخل الدولة”، وهو ما يمثّل قنبلة موقوتة على وشك الانفجار في حرب منسية تمامًا.

الفاشر… مدينة مفتاحية للتقسيم المنشود دائمًا

تاريخيًّا، كانت الفاشر عاصمة عريقة ومدينة ذات صيت واسع لما تمتلكه من مكانة دينية وسياسية، إذ كانت مركزًا لجلب كسوة الكعبة المشرفة طيلة أكثر من نصف قرن، فضلًا عن مناخها الممتاز وتربتها الخصبة وثرائها بالموارد المعدنية والنفطية.

لكن الأهم من ذلك أنها عاصمة إقليم دارفور الاستراتيجي، فالمسيطر على دارفور يتحكم فعليًّا بأرض السودان بطريقة شبه شاملة ومحكمة.

هذه الأهمية الحيوية دفعت الغزاة والطغاة عبر التاريخ إلى التعامل مع الإقليم إمّا بالاهتمام به واستغلال موارده لمصالح استعمارية كما فعل الاحتلال البريطاني، أو بإهماله الوحشي والرمي به إلى التهلكة كما يفعل حميدتي اليوم عبر جرائم ومذابح انتقامية تهدف إلى تثبيت حكومة موازية من خلال الترهيب والتخويف الممنهج.

الفاشر اليوم هي المفتاح العميق لمشاريع تقسيم السودان وتفتيته إلى دولتين، خاصة بعد انفصال جنوب السودان عام 2011.

ومن هنا يأتي التخوف من اتساع نفوذ حميدتي ومخططاته التي إن تُركت دون رادع ستتحوّل إلى كرة ثلج تنتهي بانفجار كارثي يعم الجميع، تمامًا كما حدث خلال العامين الماضيين، حيث لم تنل المأساة السودانية حتى نصرة الكلمة المستحقة إنسانيًّا وأخلاقيًّا.

وهكذا يُطرح التقسيم اليوم كحلّ مفروض في ظلّ استمرار التغطية الإعلامية الضعيفة، أو كإجراءٍ محتمل في حال غياب موقف حاسم ينهي حربًا لا بواكي لها، ذاق الشعب السوداني مرارتها الطاحنة وسط أزمة إنسانية غير مسبوقة.

شارك

مقالات ذات صلة