أدب

بشار بنُ برد: قتيلُ مُحَاكمَة النِّيّات

يونيو 30, 2024

بشار بنُ برد: قتيلُ مُحَاكمَة النِّيّات

أبو معاذ بشار بن بُرد بن بَهمَن العُقيلي، هو فارسي الأصل، بل إن بعض المصادر تقول إن أسرته من ملوك فارس. كان أبوه بُرد، قد وقع صغيرا في سبيٍ سباه المهلب بنُ أبي صفرة لما غزا خراسان عام 80 هجرية.

 

وهبَ المهلبُ بُـردًا لزوجته، ثم وهبته زوجته لامرأة من عُقيْل (إحدى قبائل بني عامر بن صعصعة الذين هم أشهر بطون هَوازن وأكبرها).

 

كان برد (أبو بشار) طيّانًا (كان يصنع اللَّـبِنَ من الطين في مهنة البناء)، أما أم بشار فاسمها غزالة وكانت أيضا أمَةً للمرأة العقيلية، وقد تزوجها برد وهو عبد عند سيدته العقيلية، فولدت بشارا، وكان مولده سنة 96 هجرية.

 

لما وُلد بشار أعمى وتوفي أبوه، أعتقته مولاته العقيلية، فصار بعد ذلك يُنسَب لعقيل (لأنه مولاهم)، وهو كثير الافتخار بنسبه العقيلي في شعره.. عاش بشار أكثر من سبعين سنة، وكان صديقا للخليفة المهدي، وقد مدحه كثيرا، لكن تلك العلاقة ستنتهي بقتل المهدي له عام 168 هجرية.

 

والقصة باختصار أن الخلفاء حينئذ كانوا يحاولون إرضاء العامة بالتشدد في أمر الدين والتظاهر بأنهم حماته، وكانت بطانة الخليفة توقع بخصومها من الناس وتتهمهم بالزندقة. وكان بشار كثير العداوات، وله خصوم كثر يريدون التخلص منه، كسيبويه ويعقوب بن داود، وواصل بن عطاء كبير المعتزلة، وقد جعل بعض هؤلاء الخصوم يروج بين الناس أن بشارا زنديق.

 

مع الأسف كانت لبشار خصلتان تجعلان الناس يصدقون هذه التهمة، فقد كان ماجنا مظهرا لمجونه وكان فارسيا، فتهمة الزندقة كثيرا ما تُلفّق لمن أصلهم فارسي بسبب الشعوبية التي ذاعت حينئذ. فاجتمع هذا كله لبشار: كثرة الناقمين عليه، وخفة دينه، وأصوله الفارسية، وكذلك “ماكارثية” الخلفاء وبطانتهم وحرصهم على كسب ود العامة من خلال محاكمة ضمائر الناس.

 

لمّا اقتنع المهدي بالتهمة الموجهة إلى بشار، أمر به فجُلد وهو شيخ كبير حتى مات. وقد ندم المهدي أشد الندم على قتل بشار، وجعل يبحث عن أي شيء يؤكد التهمة التي قتله بسببها لعل ذلك يعالج شعوره بالذنب، ولما بحث في متاع بشار، وجد ورقة تدل على براءة بشار من تهمة الزندقة، وقد كان مكتوبا في الورقة: “إني أردت هجاء آل سليمان بن علي لبخلهم، فتذكرت قرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمسكت عنهم إلا أني قلت فيهم:

 

دينار آل سليمان ودرهمهم – كالبابليّيْن حُفّا بالعفاريتِ

لا يُـبْصَـرَان ولا يرجى لقاؤهما – كما سمعتَ بهاروت وماروتِ”.

 

فعندما قرأ المهدي هذا الكتاب حزن وقال: “الآن والله صح الندم“.

 

يمثل بشار مرحلة مهمة في تاريخ الشعر العربي، فهو كما قال محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله، يمثل المرحلة الانتقالية من الأسلوب القديم في الشعر إلى الأسلوب جديد، فقد كان آخر الشعراء المتقدمين، وأول الشعراء المحدثين، لأنه قال الشعر في نهاية دولة بني أمية وبداية دولة بني العباس.

 

ومع أصله الفارسي، كان بشار عربيا فحلا، لا يخطئ أبدا في كلامه، وقد أعانه على إتقان العربية نشأته في البصرة وباديتها، وقد سئل مرة عن سبب عدم خطئه في الشعر واللغة خلافا لبعض أقرانه من الشعراء الذين لا يخلو شعرهم من زلات لغوية، فقال: “ومِن أين يأتيني الخطأ؟، وقد نشأت بين ثمانين شيخا من فصحاء عُقيْل ما فيهم أحد يعرف الخطأ، ونساؤهم أفصح منهم”!، ومع ذلك كان شعر بشار مطبوعا يأتي عذبا كالماء البارد، لا تكلُّفَ فيه ولا تصنُّع.

 

وقد اشتهر الكثير من شعر بشار، فكانت له أبيات مضرب المثل، وننشدها الآن، دون أن نعرف أنها لبشار، فمن ذلك مثلا قوله:

 

أَمِن تَجَنّي حَبيبٍ راحَ غَضبانا – أَصبَحتَ في سَكَراتِ المَوتِ سَكرانا

لا تَعرِفُ النَومَ مِن شَوقٍ إِلى شَجَنٍ – كَأَنَّما لا تَرى لِلناسِ أَشجانا

أَوَدُّ مَن لَم يُنِلني مِن مَوَدَّتِهِ – إِلا سَلاماً يَردُّ القَلبَ حَيرانا

يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة – والأذن تعشق قبل العين أحيانا

 

وكذلك قوله:

 

لم يطل ليلى ولكن لم أنمْ – ونفى عني الكرى طيف ألَمّْ

وإذا قلت لها جودي لنا – خرجت بالصمت عن لا ونعم

إن في بُردَيّ جِسمًا ناحلا – لو توكأتِ عليه لانهدم

خَتَمَ الحُبُّ لَها في عُنُقي – مَوضِعَ الخاتَمِ مِن أَهلِ الذِمَم

نَـفّسِي يا عَبْدَ عني واعلمي – أنني يا عبْدَ من لَحمٍ ودَمْ

 

وكذلك قوله:

 

علِّليني يا عَبدَ أَنتِ الشِفاءُ — واترُكي ما يَقولُه الأَعداءُ

كُلُّ حَيٍّ يُقالُ فيهِ وَذو الحِلـ — ـمِ مُريحٌ وَلِلسَفيهِ الشَقاءُ

أَنا مَن قَد عَلِمتِ لا أَنقُضُ العَهـ – دَ وَلا تَستَخِفُّني الأَهواءُ

وَعَجيبٌ نَكثُ الكَريمِ وَلِلنَفـ – ـسِ مَعادٌ وَلِلحَياةِ اِنقِضاءُ

 

وكذلك أيضا أبياته الرائقة التي جمع فيها الغزل بالمدح حيث يقول:

 

حييا صاحبَـيَّ أم العلاءِ – واحذرا طرف عينها الحوارءِ

إن في طرفها دواءً وداءً – لمحب والداء قبل الدواء

عذبتني بالحب عذبها اللــــــــــــهُ بما تشتهي من الأهواء

يقع الطير حيث يُلتَقَطُ الحَــــــــــــبُّ وتُغشى منازل الكرماءِ

إنما همة الجوادِ بنِ سهلٍ – في عطاء وموكب أو لقاءِ

ليس يعطيك للرجاء وللخو – فِ ولكن يلذُّ طَعْمَ العطاء

 

ومن عوالي شعر بشار بن برد بائيته:

 

جَفا ودُّهُ فَازوَرَّ إذ مَلَّ صاحِبُه – وأَزرى بِهِ أَلا يَزالَ يُعاتِبُه

 

حيث يقول منها:

 

إذا كان ذواقا أخوك من الهوى – توجهه في كل أوب ركائبه

فخل له وجه الطريق ولا تكن – مطية رحالٍ كثيرٍ مذاهبُه

 

يحتاج شعر بشار اليوم إلى إحياء وتدريس في المناهج، في هذا الزمن الذي ذاع فيه الشعر الرديء وكثُر المتشاعرون.

 

عشتم طويلا.

شارك