فنون
عندما أسّس الكاتب والمخرج “هاياو ميازاكي” أستوديو غيبلي كان يراهن على أنّ أفلام الأنيميشن اليابانية قادرة على أن تتجاوز إطار الترفيه للأطفال لتصبح فنًّا استثنائيًّا يخاطب الكبار أيضًا، والانطلاقة كانت في عام 1986 مع فيلم “Castle in The Sky” أو “قلعة في السماء”، الذي جاء بمثابة إعلان ميلاد حقيقي للأستوديو وبداية رحلة طويلة ستغير صورة أفلام الأنيميشن في العالم.
تبدأ أحداث الفيلم مع فتاةٍ صغيرة تُدعى “شيتا”، التي تسقط من السماء وهي تحمل قلادة زرقاء متوهّجة ذات قوة سحرية غامضة، ويلتقطها الفتى الفقير “بازو” الذي يعمل في مناجم الفحم ويحلم منذ طفولته برؤية القلعة الأسطورية “لابوتا” المعلّقة في السماء بين الغيوم.
سرعان ما ندرك أنّ “شيتا” ليست فتاة عادية، فالقلادة التي تحملها قادرة على فتح الطريق نحو تلك القلعة التي يسعى الجميع للعثور عليها: القراصنة الجوّيون بقيادة المرأة العجوز “دولا”، والقوّات العسكرية الطامعة، ورجال السياسة الذين لا يبالون سوى بالهيمنة، فيجد “بازو” و”شيتا” نفسيهما في قلب مطاردة شرسة ومملوءة بالأخطار.
الفيلم يحمل بُعدًا فلسفيًّا عميقًا يتجاوز إطار المغامرة الخيالية ليطرح أسئلة وجودية عن الإنسان وحضارته، والقلعة ليست مجرّد بناءٍ معلّق في السماء، بل صورة عن حضارات البشر التي نُشيّدها بأيدينا ونرفعها عاليًا ثم نهدمها بأطماعنا، وهنا يذكّرنا “هاياو ميازاكي” أنّ الحضارة التي تُبنى على الطمع ستنهار مهما علَت.
كما في معظم أعمال “هاياو ميازاكي”، نجد الطبيعة حاضرة كقوة حيّة، والسماء في الفيلم ليست مجرّد فضاء، بل رمز للحرية والحلم، لكن حين يحاول الإنسان إخضاعها تتحوّل إلى ساحة دمار، فالإنسان هو جزء من الطبيعة لا سيّدها، وأيّ محاولة للهيمنة عليها تقود إلى انهيار التوازن.
جميع الشخصيات في الفيلم تحمل أبعادًا مثيرة للاهتمام: “بازو”، الفتى الحالم الفقير، الذي يُمثّل الأمل في وجه الجشع، ويذكّرنا أنّ البراءة هي السلاح الأقوى، و”شيتا”، الفتاة الصغيرة الشجاعة التي ترفض أن تكون امتدادًا لخطايا الماضي وتحلم بالعيش في عالمٍ يسوده الأمن والسلام، والمرأة العجوز “دولا” تشكّل مثالًا على الشخصيات الرمادية التي يبرع “هاياو ميازاكي” في تقديمها كقرصانة قوية تبدو شرّيرة، لكنّها تحمل قلبًا طيّبًا وحنونًا، أمّا القوات العسكرية ورجال السياسة فيجسّدون الوجه القاسي للطموح البشري، حيث يتحوّل العلم والتكنولوجيا إلى أداةٍ للسيطرة والجشع.
بلغت ميزانية إنتاج الفيلم نحو 4 ملايين دولار، وقد حقّق إيرادات جيّدة في شبّاك التذاكر في اليابان حين عُرِض لأول مرة، لكنّه مع مرور الأعوام اكتسب شهرة عالمية عبر العروض التلفزيونية وإصدارات الديفيدي والبلوراي، ووصلت إيراداته بالمجمل إلى أكثر من 157 مليون دولار.
لقد أخذنا “هاياو ميازاكي” في رحلةٍ مدهشة تجمع بين الحلم الطفولي والتأمّل الفلسفي، عن الإيمان بالخير وسط أطماع البشر، وعن التمسّك بالأمل حين يسقط كلّ شيءٍ من حولنا، وقد جاء “جو هيسايشي” بموسيقاه الرائعة ليضفي على الرحلة سحرًا فريدًا يُلامس القلب والروح.


