سياسة

هل تتجه إثيوبيا وإريتريا نحو حرب جديدة؟

أكتوبر 17, 2025

هل تتجه إثيوبيا وإريتريا نحو حرب جديدة؟

لا تشبه الرسالة التي وجهها وزير خارجية إثيوبيا غديون تموتيوس إلى الأمين العام للأمم المتحدة في 2 أكتوبر 2025 رسائل الاحتجاج التقليدية. فالرسالة تمثل تصعيدًا دبلوماسيًّا بالغ الخطورة بين اثنين من أكثر دول القرن الأفريقي حساسية، إذ اتهمت الحكومة الإثيوبية، لأول مرّة بهذا الوضوح، إريتريا وجبهة تحرير شعب تيغراي (TPLF) بتشكيل تحالف جديد يهدف إلى «شن حرب» ضد إثيوبيا، وبدعم ميليشيا فانو في هجومها على مدينة وُلديا (Woldia)، وهي مدينة تقع في منطقة شمال وولو بولاية أمهرة بمنطقة أمهرة. بينما نفت القيادة التيغراوية تلك الاتهامات، ووصفتها بأنّها محض ذريعة لشن حرب جديدة، فإنّ تطورات الأشهر الأخيرة وسياق الصراع الإثيوبي الداخلي يشيران إلى أنّ الأمر أبعد من مجرّد تبادل اتهامات.

ما وراء رسالة غديون: تحالفات تتشكل على أنقاض اتفاق بريتوريا

وفقًا لصحيفة أديس ستاندرد، زعمت الرسالة أنّّ ما يسمى «تحالف تسيمدو» يضم فصيلاً متشددًا من جبهة تحرير شعب تيغراي إلى جانب الحكومة الإريترية، وأنّ هذا التحالف «يموّل ويحرّك ويوجّه جماعات مسلحة مثل فانو لتوسيع نطاق الصراع». تضمنت الرسالة تفاصيل عن مشاركة قادة ومقاتلي الجبهة في الهجوم على وُلديا، وعن اشتباكات أخرى في عدة مدن مختلفة، معتبرة أنّ هذه الأحداث تشكّل انتهاكًا لاتفاق بريتوريا الموقع في نوفمبر 2022. وبالرغم من أنّ الجيش الإثيوبي حافظ على «موقف دفاعي» في مواجهة الهجمات، إلا أنّ الرسالة حذرت من أنّ سياسة ضبط النفس «ليست إلى أجل غير مسمى»، ما يعني استعدادًا للردّ العسكري إذا استمرت «الاستفزازات».

 يتقاطع هذا الاتهام مع تقرير نشرته صحيفة “ديلي نيوز إيجيبت” يشير إلى أنّ إثيوبيا وصفت إريتريا بأنّها «المهندس الرئيس» لمحاولات زعزعة الاستقرار من خلال «دعم مالي ومادي وسياسي» للمتمردين، واعتبرت أنّ مخاوف أسمرة بشأن طموح أديس أبابا للحصول على منفذ بحري ليست سوى «ذرائع».

غير أنّ الرسالة الإثيوبية لم تصدر في فراغ؛ فهي تأتي بعد تصاعدٍ كبير في نشاط ميليشيا فانو، التي أعلنت في مارس 2025 عن تشكيل «القوة الوطنية فانو» عبر اندماج أربعة فصائل (غوجام وولو وقندار وشوا) بهدف حماية مصالح شعب أمهرة. وفي الشهر ذاته، شنت وحدات فانو هجمات واسعة في أقاليم غوجام وجندار وشمال وولو، مسيطرة على عدة مدن إستراتيجية وقتلت أكثر من 355 جنديًا من الجيش الإثيوبي واستولت على كميات كبيرة من السلاح، متنقلةً من حرب عصابات إلى محاولة السيطرة على الأرض.

فانو كعامل مغير لقواعد اللعبة

أُنشئت ميليشيا فانو في الأصل كقوة دفاعية محلية لحماية مصالح إثنية الأمهرة أثناء حرب تيغراي (2020‑2022)، لكنّها سرعان ما اكتسبت نفوذاً سياسيًّا وعسكريًّا. عارضت فانو تطبيق اتفاق بريتوريا لأنّها شعرت بأنّ نزع سلاحها ودمج مقاتليها في الجيش الفدرالي يهُمّش الأمهرة. كما أدى سعي الحكومة إلى تركيز السلطة وحلّ وحدات الأمن الإقليمية إلى خلق شعور بالتهديد لدى هذه الجماعات. وفي يوليو 2024 أطلقت فانو هجومًا واسعًا سمح لهابالسيطرة على مناطق ريفية وتحجيم قدرة الجيش الفدرالي على التحرك. ويبدو أنّ الميليشيا اختارت مواصلة المواجهة بعد أن شعرت بأنّ الحكومة لا تستمع لمطالبها، الأمر الذي جعلها أقرب إلى تعاون تكتيكي مع خصوم الحكومة الآخرين.

من جهة أخرى، لا يمكن تجاهل الانقسامات داخل جبهة تحرير شعب تيغراي نفسها. فبعد عامين من توقيع اتفاق بريتوريا، ما زالت الجبهة منقسمة بين تيار يقوده “ديبريتسيون جبري ميكائيل” وآخر يقوده الرئيس المؤقت لتغراي “غيتاتشيو ريدا”. تهدد هذه الانقسامات بتفجر صراع داخلي جديد، خصوصًا أنّ القوات الدفاعية التيغراوية لم يتم نزع سلاحها بالكامل. وبالنسبة لبعض قادة الجبهة، يمثّل اتفاق بريتوريا تهديدًا لنفوذهم واتهامًا ضمنيًا للجبهة بالإرهاب، الأمر الذي يجعل التعاون مع فانو أو أيّ خصم آخر للحكومة خياراً تكتيكياً لتعزيز موقعهم السياسي.

«ممر إلى البحر» أم «حلم العودة إلى موانئ أسمرة»؟

إضافيًا، يأتي التصعيد الإثيوبي‑الإريتري على خلفية ملف بحري شديد الحساسية. فمنذ استقلال إريتريا عام1993 أصبحت إثيوبيا دولة حبيسة، وصار أكثر من 90% من تجارتها الخارجية يمر عبر ميناء جيبوتي. الاعتماد على منفذٍ واحد جعل المسؤولين الإثيوبيين يعتبرون الأمر «سجناً جغرافياً»، خاصة مع ارتفاع عدد السكان وتنامي طموحات البلاد الاقتصادية.  إذ ترى دراسة صادرة عن معهد الشؤون الخارجية الإثيوبي أنّ غياب منفذ بحري يُكلف الاقتصاد الإثيوبي ما بين 1.5 و2 مليار دولار سنوياً في شكل رسوم وخدمات. كما تُحاجج بأنّ القانون الدولي يمنح الدول الحبيسة حقّ الوصول إلى البحر عبر الدول الساحلية المجاورة، وأنّ الاتفاقيات الأفريقية تدعو إلى تحويل مفهوم «البر الحبيس» إلى «رابط بري» يقوم على التعاون الإقليمي.

لكن مطالبة إثيوبيا بفتح نقاش حول حصولها على منفذ بحري –سواء عبر تأجير ميناء عصب الإريتري أو عبر اتفاق مع أرض الصومال– أثارت مخاوف جيرانها. فقد اعتبر وزير الإعلام الإريتري “يمانى مسقل” أنّ هوس الحزب الحاكم في إثيوبيا بـ«المياه الثلاثة – النيل والبحر الأحمر» أمر «عجيب ومحير»، متهماً أديس أبابا بتبرير «أجنداتها الشريرة» عبر ادعاءات زائفة. كما اعتبر مسؤولون إريتريون أنّ حديث رئيس الوزراء أبي أحمد عن وصول إلى البحر لأسباب «وجودية» يصب في إطار تحضير الرأي العام الداخلي لاحتمال استخدام القوة، رغم إصراره على أنّه لن يغزو إريتريا. ما يفسّر لماذا وقّعت الدولتان اتفاقية أمنية مع مصر، آملاً أن تكون رافعة تضع حدًّا لسلوك إثيوبيا.

لكن لم يقتصر التصعيد على الاتهامات الأمنية؛ فبعد افتتاح المرحلة الأخيرة من سد النهضة في 9 سبتمبر 2025 شهدت مصر والسودان فيضانات واسعة غير معتادة. استخدم بعض الإعلام المصري هذه الفيضانات لتوجيه أصابع الاتهام إلى إثيوبيا، حيث اتهمت وزارة الموارد المائية والري في القاهرة أديس أبابا بالتسبب في «طوفان من صنع الإنسان» نتيجة إطلاق المياه بعد افتتاح السد. حيث أشار البيان المصري إلى أنّ تصريف المياه ارتفع فجأة إلى 780 مليون متر مكعب يوم 27 سبتمبر قبل أن ينخفض، ما تسبب في فيضان نهر النيل وتضرر أراضي زراعية ومنازل. إلا أنّ وزارة المياه والطاقة الإثيوبية رفضت هذه الاتهامات، مؤكدة أنّ تنظيم تصريفات السد خفف من شدة الفيضانات، وألقت باللوم على الأمطار الغزيرة لوقوع الكارثة.

تعكس هذه الاتهامات المائية مدى تسييس ملف السد والبحر. ففي الوقت الذي تحرص إثيوبيا على تسويق السد كمشروع للتنمية الإقليمية –إذ قال أبي أحمد خلال الافتتاح إن السد بُني «لينعش المنطقة ويغير تاريخ شعب أفريقيا»– ترى مصر والسودان أنّ أيّ خطوةٍ أحادية في تشغيله تمثل تهديدًا لوجودهما. ومع اضطراب المناخ وكثرة الفيضانات، يُتوقع أن يصبح السد، وطموحات إثيوبيا البحرية ساحة جديدة للحرب الإعلامية والدبلوماسية.

المشهد الإقليمي المعقّد: هل تتجه المنطقة لحرب شاملة؟

إنّ خطورة الاتهامات الحالية تكمن في أنّها تأتي ضمن فسيفساء معقدة من التوترات الداخلية والإقليمية. فالنزاع الإثيوبي الداخلي لم ينتهِ باتفاق بريتوريا، ولا يزال الجيش الفدرالي يواجه في آنٍ واحد تمرد فانو في أمهرة، وقوات أورومو التحررية في أوروميا، وانقسام التيغراي. وفي حالة تحالف بعض هذه القوى مع إريتريا – سواء بشكلٍ تكتيكي أو بدعم إريتري – فإنّ إثيوبيا قد تجد نفسها أمام حرب متعددة الجبهات.

أمّا إريتريا فترى في أي تعزيز للنفوذ الإثيوبي على البحر الأحمر تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي. فقد سبق لها أن دخلت حربًا مع إثيوبيا بين 1998 و2000 بسبب خلاف حدودي، وتدرك أنّ اقتصادها الصغير لا يتحمل خسارة السيطرة على موانئه. من ناحيةٍ أخرى، تستخدم أسمرة الميليشيات الإثيوبية مثل فانو كورقة ضغط، كما تقول الرسالة الإثيوبية، من أجل إضعاف الحكومة المركزية وإجهاض مشروعها البحري. كما أنّ وجود القاهرة في هذا المعادلة يمنح أسمرة ثقلاً إقليميًا، خصوصًا بعدما كوّن البلدان مع الصومال لجنة ثلاثية للتنسيق الأمني والدبلوماسي.

مع ذلك يًدرك كلّ مراقبٍ أنّ التحالف الثلاثي قد يكون هشًا؛ فمصلحة القاهرة الأساسية مرتبطة بالتحكم في مياه النيل، بينما تهتم مقديشو بتأكيد سيادتها على أرض الصومال والحصول على دعمٍ عسكري في مواجهة حركة الشباب. أمّا أسمرة فترغب في منع إثيوبيا من الوصول إلى البحر. بتعبير آخر، فرغم المصالح المتقاطعة، يمكن أن تتبدّل التحالفات سريعًا في حال تغيّرت أولويات أيّ طرف. كما أنّ التوترات داخل كل دولة (الانقسام السياسي في الصومال، والأزمة الاقتصادية في مصر، والعزلة الدولية لإريتريا) تجعل من الصعب تشكيل جبهة صلبة ضد إثيوبيا.

الخاتمة: وعليه، ومن الناحية الواقعية، يبدو أنّ أيّة مواجهة شاملة لن تحقق مكاسب واضحة لأحد. فإثيوبيا، رغم قوتها العسكرية المتنامية، تعاني من تمردات داخلية واستنزاف اقتصادي، ولا يمكنها خوض حرب على جبهتين دون أن تدفع ثمنًا سياسيًا واقتصاديًا باهظًا. في المقابل، لا تستطيع إريتريا تحمّل حرب طويلة مع جارتها الأكبر، خصوصًا في ظل العزلة الدولية والعقوبات المتكررة، ومن الصعب أن يغير تحالفها مع القاهرة تلك الحقيقية. إذن، الاتهامات المتبادلة بين إثيوبيا وإريتريا وجبهة تحرير شعب تيغراي ليست سوى قشرة لما هو أعمق، أي أنّها صراع على السلطة والموارد والهوية في دولة متعددة القوميات، وصراع على الممرات البحرية بين دول تعتبر البحر الأحمر شريان وجودها. وأصبحت الميليشيات المحلية مثل فانو وجبهة تحرير تيغراي أوراقًا في لعبة إقليمية أكبر، وفي غياب معالجة حقيقية لجذور هذه القضايا يبقى خطر الانفجار قائمًا، بل وربما حتى الحرب الإقليمية.

شارك

مقالات ذات صلة