مدونات

الأبعاد التكتيكية والأخلاقية في صفقات تبادل الأسرى

أكتوبر 14, 2025

الأبعاد التكتيكية والأخلاقية في صفقات تبادل الأسرى

الكاتب: ظاهر صالح

في ظلّ توقف العدوان، ولو مؤقتاً، تبرز قضايا تبادل الأسرى كمقياسٍ أخلاقي يكشف بوضوح عن التوجهات الفكرية والسياسية لكلٍّ من حركة المقاومة الإسلامية “حماس” وفصائل المقاومة من جهة، وكيان الاحتلال من جهةٍ أخرى.
لم تكن عمليات الإفراج الأخيرة، ولا سابقاتها، مجرّد ترتيباتٍ إجرائية لإعادة محتجزين، بل كانت نافذةً حادّةً نطلّ منها على التباين العميق بين «أخلاقيات القوة» و«قوة الأخلاق».
فالمشاهد التي بثّت أثناء التسليم تكشف هذا التناقض الجوهري: معاملة الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة بكلّ انضباط وإنسانية، مقابل التعامل المهين الذي تعرّض له الأسرى الفلسطينيون المفرج عنهم من سجون الاحتلال.
إنّ تبادل الأسرى في فترات وقف إطلاق النار ليس مجرّد عملية لوجستية، بل مرآة تعكس منظومة القيم والعقلية التكتيكية لكلّ طرفٍ في الصراع. فبينما تسعى المقاومة إلى ترسيخ صورتها كفاعلٍ عقلانيٍّ ذي سيادةٍ ميدانية، يحرص الاحتلال على تصفير الكرامة وتحويل عملية الإفراج إلى أداةٍ عقابيةٍ تُقوّض أيّ نصرٍ معنوي محتمل.

أولاً: صراع السردية البصرية

أظهرت الجولة الأخيرة من المفاوضات أن جوهر المعركة لم يكن فقط في الأسماء والأعداد، بل في التحكم بالمشهد البصري، وهو ما كشف عن اختلافٍ عميق في الأولويات التكتيكية بين الطرفين.

أ. الاحتلال – الهروب من صورة المنتصر

  • الانزعاج من المشهد السابق: أبدى الاحتلال انزعاجًا بالغًا من اللقطات التي بُثّت في التبادلات السابقة، والتي أظهرت مقاتلي المقاومة وهم يسلّمون الأسرى بطريقةٍ منظمة وهادئة، ما منح المقاومة صورة المنتصر والمتحكّم في الأرض، وتناقض مع سردية الردع والسيطرة التي يتبنّاها الاحتلال.
  • الهدف التكتيكي: لذلك كان الإصرار الإسرائيلي على منع تكرار هذه اللقطات أحد الشروط التفاوضية الرئيسية، في محاولةٍ لطمس الصورة الرمزية لهزيمته المعنوية.
  • النتيجة: رغم تغييب الكاميرات، ظلّ جوهر المشهد على حاله. فقد جرت عمليات التسليم من مواقع متعددة داخل قطاع غزّة، في الوسط والجنوب، تحت سيطرة ميدانية كاملة للمقاومة، وشملت أيضًا تسليم جثث أسرى قُتلوا خلال القتال، ما يؤكد الوجود الفعّال للمقاومة وسيادتها على الأرض.

ب. المقاومة – الانضباط كأداة سيادية

  • الاحترافية والتنسيق: أدارت كتائب الشهيد عز الدين القسام عمليات الإفراج بانضباطٍ تكتيكيٍّ صارم، واحترافيةٍ عالية، عبر تنسيقٍ مرن ومباشر مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ما يعكس كفاءةً ميدانيةً وسياسية تجعل المقاومة طرفًا ذا مصداقية تنفيذية في أيّ تفاوض.
  • رسالة المعاملة الحسنة: التزام المقاومة بصون كرامة الأسير، حتى لو كان عدوًّا، يتجاوز البعد الإنساني إلى البعد الاستراتيجي، إذ يُستخدم كأداةٍ لتشكيل السردية العالمية، وإظهار التزام المقاومة بأخلاقيات الحرب غير المتكافئة. هذه الصورة تعزّز موقعها كفاعلٍ عقلانيٍّ ومتحكّم أمام الرأي العام الدولي.

ثانيًا: الأخلاق في التعامل مع الأسرى

يظهر التباين الحادّ بين الطرفين في الطريقة التي يُعامَل بها الأسرى، حيث تكشف ممارسات كلّ جانب عن عمق منظومته القيمية.

أ. الاحتلال – سياسة الإذلال الممنهج

في المقابل تمامًا، تعاملت سلطات الاحتلال مع الأسرى الفلسطينيين المفرج عنهم بسياسةٍ ممنهجةٍ للإذلال والعقاب.

  • التنكيل قبل وأثناء الإفراج: مارست سلطات الاحتلال الاعتداءات منذ اللحظات الأولى، فأطلقت قنابل الغاز والصوت لتفريق الأهالي قرب سجن عوفر، ونقلت الأسرى إلى المعابر وهم مقيدون بالأصفاد.
  • تجفيف مصادر الفرح: اقتحمت قوات الاحتلال منازل الأسرى ذوي الأحكام العالية، وحذّرتهم من أيّ احتفالٍ أو تجمع، في مسعى لتجريد لحظة الإفراج من أيّ قيمةٍ إنسانية أو رمزية.
  • الهدف التكتيكي: هذه الإجراءات تتجاوز مجرّد العقاب، إذ تسعى إلى تصفير الكرامة كأداةٍ ردعيةٍ، وإيصال رسالةٍ نفسية مفادها: “لا نصر لكم”، وهو ما يكشف أنّ الاحتلال يتعامل بروح الانتقام لا في إطار اتفاقٍ إنسانيٍّ متوازن.

ب. المقاومة – اختراق أخلاقي في الوعي العالمي

على النقيض، التزمت المقاومة بضبطٍ ذاتي صارم، وتعاملت مع الأسرى المحتجزين لديها وفق معايير إنسانية طوعية، ما مثّل اختراقًا أخلاقيًّا في الوعي الدولي.

  • بهذا السلوك، قدّمت المقاومة نفسها كفاعلٍ عقلاني يتجاوز منطق الانتقام، ويستخدم الأخلاق كقوةٍ ناعمةٍ لتشكيل الرأي العام العالمي.
  • في المقابل، كشفت ممارسات الاحتلال عن طبيعته القمعية وسلوكه اللاأخلاقي، إذ ظهر كقوةٍ تسعى إلى إذلال الأسير الفلسطيني وتحطيم إنسانيته، ما نزع عنه أيّ هالةٍ أخلاقيةٍ أو شرعيةٍ يدّعيها أمام القانون الدولي.

ختامًا

يبقى ملف الأسرى والمعتقلين البوصلة الأدق لقياس مستوى الأخلاق في كلّ منظومة.
في المشهد المتباين بين المقاومة والاحتلال، تتجلّى المفارقة بأوضح صورها:
فالمقاومة تمارس قوةً أخلاقية تُحافظ على الضوابط حتى في معاملة عدوّها، فيما يمارس الاحتلال قوةً قمعية لا ترى في الأسير سوى أداةٍ للانتقام والإذلال.
وهذا التناقض العميق هو الذي يشكّل السردية العالمية للصراع، ويحدّد من يمتلك الرصيد الأخلاقي في ميزان الرأي العام، ومن يظل أسير قوته العمياء التي تفتقر إلى الأخلاق.

شارك

مقالات ذات صلة