مدونات
الكاتبة: إيمان فتحي
حين استعددت لكتابة مقالي، صادفني مشهد من مسلسل «واحة الغروب»؛ مشهد يجسّده خالد النبوي وطلعت زين يتجادلان أمام مشاهد الدمار والقتل والتشريد التي خلفتها ثورة عرابي، ورد فعل الاحتلال البريطاني على تحركات الشعب المصري. يتبادل الاثنان حوارًا يرتبط مباشرة بواقع تاريخي متكرر: ثمن المقاومة وتكاليف الحرية. يقول طلعت متسائلاً: «ليه الناس تموت كده؟» فيجيبه محمود بهدوءٍ قاسٍ: «كلّ حاجةٍ وليها تمن. احنا كنا هانقولهم اطلعوا برا ويطبطبوا علينا»، فتردّ المفارقة التي تعبّر عن التنازل بالكرامة: «أنت شايف التمن أننا احنا تنهزم والبلد تدمر والناس تموت كده؟» فيجيب محمود بكلماتٍ تلامس عمق المأساة: «مفيش أشرف من كده. الناس بتموت وهي بتقاوم».
هذا المشهد أعاد إلى ذهني ما جرى في غزّة وما رافق السابع من أكتوبر من نقاشات حادة حول معنى المقاومة ومبرراتها وتبعاتها. من منظور مصرية درست تاريخ بلادها، تبدو مقاومة الفدائيين ووقوف الشعب في وجه الغزو وسيلةً لاسترداد الأراضي والحفاظ على الكرامة والوجود. لكن السؤال الذي يفرض نفسه بقوة: هل تعود فلسطين بلا مقاومة؟ لا شك أنّ المقاومة جزء من التاريخ المشروع للدفاع عن الوطن، وأنّها تقتضي تضحيات بالأنفس والمال. ومع ذلك، لا يجب تحميل المقاومة وحدها مسؤولية كلّ الدمار، فهناك عوامل عدة متشابكة: سياسات الاحتلال، التواطؤ المحلي لبعض القوى، فشل البنى المدنية، واستراتيجيات التدمير الممنهجة.
في هذا السياق المؤلم ظهرت فاجعة فقدان الشاب صالح — صالح الجعفراوي — الذي رسمت بسمة براءته وجهه عند إعلان وقف إطلاق النار، فانطلق يبشر الناس بخبر الأمل ليُغتال على يد أيادٍ غادرة لم تكن من جنس عدو خارجي بالضرورة، بل جاءت من داخله؛ ممّن يحملون نفس الدم والدين والجنسية. هذا الغدر يذكّرنا بأنّ العدو الحقيقي أحيانًا يتخفى بوجه أصحاب البلد، وأنّ الانقسام والفساد والميليشيات العميلة قد تفعل أكثر مما يفعله الاحتلال في إشاعة الفوضى والقتل.
ماذا فعل صالح؟ ما جريمته إلا أنّه أحب وطنه، وبذل من حبه الغالي فداءً له. مقاطع مصورة له بعد وقف الحرب تُظهره بين الركام والدمار، يجيب شابًا ناداه قائلاً: «كلّه فدا المقاومة» فيرد صالح بصدقٍ عذب: «كله فدا فلسطين». بهذه الجملة البسيطة تتضح مأساته: كان يرى العدوّ الحقيقي في مَنْ أذلوا وأذبحوا وطنه، وفي المقابل شهد الخيانة من قِبل من يفترض أنهم رفقاء الطريق.
رحم الله صالح وتقبله من الشهداء؛ ومهما اختلفت المواقف حول الوسائل والتكتيكات، يبقى واجبًا أخلاقيًّا ووطنيًّا أن نُدين فعل الغدر ونحفظ ذكرى البراءة التي تمثلها ابتسامته. وعلى الجميع أن يلتزموا وصيته الأخلاقية: استوصوا بالمقاومة خيرًا، ليس بوصفها دعوة للعنف الأعمى، بل كقيمةٍ دفاعيةٍ عن شرف البلاد وكرامتها، مع ضرورة مساءلة من خان وطنه والعمل على محاسبة من أضروا بالمجتمع من الداخل قبل الخارج.