آراء
الطوفان وسنوات اليقين لم تكونا معركة سياسية ولا مجرّد مواجهة عسكرية، بل كانتا فاصلاً بين زمنين: زمنٍ تاه فيه الناس بين الشعارات والمصالح والادعاءات، وزمنٍ كشفت فيه الأحداث من كان مع الله ومن كان مع نفسه. سنتان فقط، كانتا كافيتين لتهتز فيها الأرض، وتسقط فيها أقنعة ظلت تعيش بيننا عقوداً. أحزاب، وهيئات، وقامات، ومنصات إعلامية، ودول كانت تتزين بشعارات المقاومة والحرية، فإذا بالطوفان يجرفها كلّها ويُبقي الصادقين وحدهم على الشاطئ.
في لحظةٍ واحدة، تغيّر ميزان الصدق، وأصبح السؤال الحقيقي: من الذي صدّق وعد الله؟ من الذي لم تهزه صرخات المرجفين ولا تخويف المخذّلين؟ هناك من عاش حياته يظن أنّ الإيمان كلمات، حتى جاء الطوفان فبان من كان يقرأ قوله تعالى «إن تنصروا الله ينصركم» بعقله، ومن كان يقرؤها بقلبه.
إنّ حديث النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: «وابعث جيشاً نبعث خمسة، واغزهم نغزك، وقاتل بمن أطاعك من عصاك» ليس مجرّد توجيه عسكري، بل منهج حياة. هو دعوة لأن تمضي بالحقّ ولو وحدك، لأنّ الله لا ينظر إلى الأعداد بل إلى القلوب. فكم من قلة غيّرت وجه التاريخ لأنّها لم تهتز أمام الزيف، وكم من جموع تلاشت لأنّ يقينها كان أضعف من الريح.
الطوفان كشف أنّ الإنسان إذا امتلأ قلبه يقيناً صار أمة وحده. يمشي في الناس وكأنّ خلفه جيوشاً من النور، يكتب ويغرد ويتكلم ويذهب ويخاطر ويهبّ، كأنّ الله جعله لساناً لحقٍّ صامتٍ في قلوب الآخرين. الطوفان حرّر الإنسان من خوفه، من تردده، من حب الدنيا الذي قيده، ومن كراهية الموت التي أذلته. فجأة أدركنا أنّ الحياة التي عشناها لم تكن حياة، وأنّ العيش الحقيقي هو أن تكون جزءاً من طوفان الحقّ، تمضي به أو تفنى في سبيله.
سنوات اليقين علمتنا أنّ كلّ ما كنّا نظنّه حدوداً هو سراب، وأنّ المواثيق والاتفاقيات والحدود السياسية لم تُسقِط إلا نفسها. لقد وُلد في القلب يقين جديد: أنّ الأمة واحدة وإن فرّقتها الجغرافيا، وأنّ القوة التي أمرنا الله بها تبدأ من الفكرة الصادقة وتنتهي بالفعل المؤمن. لم يعد الإيمان حديثاً عن الماضي، بل صار فعلاً حاضراً يعبُر الجدران والحصار والحدود.
ومن اليقينيات التي وُلدت في رحم الطوفان، يقين أنّ نصر الله ليس فوريًّا بل متدرج، وأن الله يُمهل ليُظهر، ويؤخّر ليُمحّص، وأنّ التأخير في الظاهر هو عين اللطف في الباطن. ومن أدرك ذلك، علم أنّ سنوات اليقين ليست انتظاراً للفرج، بل مدرسة لصناعة النفوس المؤمنة الصلبة.
ويأتي بعده يقين آخر: أنّ الابتلاء سنة التمحيص لا العقوبة، وأنّ الله لا يبتلي عباده ليعذبهم، بل ليُظهر الصادق من المدّعي. كلّ ما جرى في الطوفان كان غربالاً يميّز الذهب من التراب، كما قال تعالى: «حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله، ألا إنّ نصر الله قريب».
وثالثها يقين أنّ الكلمة الصادقة جزء من المعركة، وأنّ مقاومة الوعي لا تقلّ عن مقاومة الميدان. فقد كان الطوفان سلاحًا إعلاميًّا وإيمانيًّا قبل أن يكون بندقية، وكان كلّ صوتٍ يصرخ بالحقّ سهماً يضرب جدار الصمت في وجه الزيف.
ومن رحم البلاء أيضاً وُلد يقين أنّ الأمة تُبعث من تحت الركام، وأنّ الله إذا أراد أن ينهض بها هيّأ لها طوفانًا يطهّرها قبل أن يُكرمها. فالنهضة لا تأتي من القصور، بل من الخنادق، من البيوت المهدمة التي ما زالت تُكبر، ومن دموع الثكالى التي تُنبت رجالًا لا يخافون في الله لومة لائم.
ثم يقين خامس أعمق: أنّ الله يُدير المعركة بعلمه لا بعقولنا، فكم من خطة بشرية سقطت، وكم من تدبيرٍ ربانيٍ فاق التوقع. لقد تعلّمنا أنّ الله يكتب فصول التاريخ بقدرٍ لا يُدركه أحد، وأنّه وحده يُحرّك الموج في الوقت الذي يشاء. فحين يغيب المنطق البشري، يحضر التدبير الإلهي.
ويقين سادس: أنّ الدماء لا تضيع، وأنّ كل قطرةٍ من دمٍ زكيٍ فتحت طريقاً جديداً، وأنّ الشهداء لم يغيبوا، بل صاروا حاضرين بمعنى أعمق من الحياة نفسها. تلك الدماء لم تكن خسارة، بل كانت توقيعًا على وثيقة بقاء الأمة وخلود قضيتها.
ثم يقين سابع: أنّ الجيل القادم لا يحمل العبء بل الراية. كنّا نظنّ أنّ أبناء هذا الجيل قد غرقوا في لهوهم، فإذا بهم يحملون وعيًا أنضج وهمةً أصدق، فكتبوا بدمائهم ما عجزت الكتب عن شرحه. الطوفان أثبت أنّ الأمة تتجدد، وأنّ الله يبعث على رأس كلّ مرحلة من يُحيي فيها جذوة الإيمان من جديد.
وأخيرًا يقين أنّ الحقّ باقٍ وإن تغيرت أدواته، وأنّ الطوفان لا يقتصر على البندقية، بل يمتد إلى التعليم والإعلام والعمل الخيري والاقتصاد، إلى كلّ من يعمل لله بنيّةٍ صادقةٍ في موقعه. فكلّ مؤمنٍ صادقٍ هو موجة في بحر الطوفان، يضرب الحصار بفعله وكلمته وعطائه.
والآن، وبعد أن هدأت موجات الطوفان الأولى، من بقي واقفاً يعلم أنّ المعركة لم تنته، وأنّ اليقين لا يورث، بل يُبنى كلّ يومٍ بالموقف والكلمة والفعل. فالمؤمن الذي ذاق حلاوة اليقين لن يعود أبداً كما كان. لقد صار يرى النصر في الصبر، والمجد في الثبات، والحياة في الموت من أجل الحقّ.
الطوفان لم يكن معركة على الأرض فحسب، بل كان معركة في الوعي والقلوب. طوفان أسقط الحصار عن غزّة، وكسر الحصار في داخلنا. أعادنا إلى المعنى الأول للجهاد، وإلى الطهر الأول للمقاومة، وإلى الإيمان بأنّ الحقّ لا يُقاس بالغلبة بل بالثبات عليه حتى لو خذله الناس.
إنّها سنوات اليقين، السنوات التي كشفت أنّ النصر لا يُقاس بعدد الرايات المرفوعة، بل بعدد القلوب التي بقيت مرفوعة لله. ومن ذاق اليقين، علم أنّ الطوفان لم يكن نهاية شيء، بل بداية عهدٍ جديد، تُكتب فيه معاني الإيمان لا بالحبر، بل بالفعل والثبات، حتى يتحقق وعد الله الذي لا يخلف الميعاد.





