مشاركات سوريا
الطلاب في الساحات والمعلمون في الصفوف وحتى المارة في الشارع، الجميع يقف باستعدادٍ وشموخ دون أيّ حركةٍ أو صوت. ليست لذكرى شيء تاريخي، وإنّما لأنّ النشيد الوطني بدأ للتو. في تركيا ستُدهش من موقفين متكررين: تقديس الأتراك للعلم، واعتزازهم والتزامهم بالنشيد.
الأمر ليس مجرّد لحن أو كلمات، بل شعور جماعي عميق يصنع رابطاً غير مرئي بين الفرد ووطنه. هذا الرابط الذي حُرم منه السوريون طوال أربعة عشر عاماً من الحرب.
منذ عام 1938، اعتمدت سوريا نشيد “حماة الديار”. لكن مع اندلاع الثورة ارتبط هذا النشيد بالنظام السابق، لأنّه يبدأ بتمجيد الجيش وقوى الأمن الذي ارتُكب باسمه الجرائم بحقّ الشعب.
هذا الارتباط جعل من النشيد عبئاً نفسيًّا على السوريين، فبدأت محاولات المعارضة والثوار للبحث عن بديل. طُرحت مقترحات، بينها نشيد “في سبيل المجد” للشاعر عمر أبو ريشة، الذي تعكس كلماتُه الأمل والطموح الوطني بعد ثورة السوريين. غير أن هذا النشيد بقي مؤقتاً ولم يُعمم رسميًّا على المدارس.
اليوم، مع سقوط النظام وبدء العام الدراسي الأول من جديد، لم يُعتمد نشيد وطني رسمي، ما ترك فراغاً في أحد أهم جوانب الهوية الوطنية والثقافة التعليمية.
لطالما شكّل النشيد الوطني أداة أساسية في بناء الهوية الجماعية للدول، فهو ليس مجرّد مقطوعة موسيقية وكلمات تُردد، بل تجسيد لتاريخ الأمة، وتراثها، ونضالات شعبها. كما أنّه يساهم في شحذ الروح المعنوية، وجمع الأفراد على هدفٍ واحد، وتعزيز الشعور بالفخر بالانتماء للوطن. تتجلّى هذه الأهمية بشكل خاص في المؤسسات التعليمية، حيث يُعد النشيد الوطني، إلى جانب العلم، من أهم الرموز التي تُغرس في نفوس الطلاب منذ الصغر.
غالباً تعاد كتابة النشيد الوطني بعد تغيير جذري يحصل في البلاد، كالحروب والنزاعات الطائفة أو الانقسامات الداخلية. تعاد كتابة النشيد لعدة أسباب أهمها:
1-القطيعة مع الماضي الاستبدادي: بعد سقوط أنظمة قمعية استبدادية، قد ينظر إلى النشيد كرمزٍ لذلك النظام.
2-بناء هوية جامعة: بعد حروب أهلية أو انقسامات طائفية يُطرح سؤال؟ هل يعبّر النشيد عن جميع مكونات المجتمع؟ في هذه الحالة يُستبدل النشيد أو يُعدّل ليمثّل كلّ أطياف الشعب.
3-الحداثة والملاءمة اللغوية: أحياناً تكون الكلمات قديمة أو فيها تمييز عنصري فتعدل لتواكب قيم العصر.
لم تكن سوريا وحدها التي واجهت هذا السؤال. عبر التاريخ، اضطرت دول كثيرة لإعادة كتابة أو تعديل أناشيدها بعد الحروب أو التغيرات الكبرى:
1) جنوب أفريقيا من الانقسام إلى النشيد المركب (1997)
بعد سقوط نظام الفصل العنصري، واجهت جنوب أفريقيا معضلة رمزية: هناك أغنيتان احتوت كلٌّ منهما ذاكرة سياسية مختلفة نشيد «Nkosi Sikelel’ iAfrika» المرتبط بحركة التحرّر، و«Die Stem» المرتبط بالنظام السابق. الحلّ كان عمليًّا ونادراً، إنشاء نشيد مركب يدمج مقاطع من كلتيهما وبأكثر من لغةٍ رسمية، واعتمدته الدولة عام 1997 ليمثّل تحوّل الوحدة المتعدد الثقافات. هذا نموذج لكيفية توظيف النشيد لبلورة هويّة جديدة شاملة.
2) روسيا إعادة لحن سوفييتي بكلمات جديدة (2000)
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي استُبعد لحن النشيد السوفييتي، ثمّ أُعيد استخدام لحن ألكسندروف الشهير عام 2000 مع كلمات جديدة كتبها سيرغي ميخالكوف. القرار رمزي: الاحتفاظ ببُعد موسيقي قوي من الماضي مع تعديل النصّ ليخدم سرداً وطنيًّا جديداً. المثال يبيّن أنّ الدولة قد تختار البقاء على هويّة موسيقية بينما تغير الكلمات لملاءمة المرحلة السياسية.
3) أفغانستان تَغيُّر أنغام مع تغيّر الأنظمة
أثناء جمهوريات ما بعد 2001 كان لأفغانستان نشيد مكتوب (2006–2021). مع عودة حركة طالبان (2021) تغيّر النشيد مرة أخرى، ما يُظهِر كيف ترتبط الأناشيد بالسلطة الحاكمة ومقدراتها الرمزية.
4) ألمانيا تقليص النصّ لا تغيير اللحن
ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية لم تكتب نشيداً جديدا، لكنّها اعتمدت رسميًّا فقط المقطع الثالث من «Deutschlandlied» لتجنّب الإشارات القومية والنازية في المقاطع الأخرى. هذا حلّ وسط: الاحتفاظ باللحن والتاريخ الثقافي، مع حصر المقطع الذي يتناسب مع قيم الجمهورية الحديثة.
دول لا تملك كلمات رسمية لنشيدها حتى اليوم
هناك 4 بلدان معروفة عالميًّا بأنّ ألحان نشيدها الوطني بدون كلمات رسمية:
هذه التجارب تثبت أنّ النشيد ليس مجرّد موسيقى، بل قرار سياسي وثقافي يحدد هويّة المجتمع لسنوات طويلة.
اعتماد نشيد وطني جديد في سوريا ليس بالأمر اليسير، سوريا بلد مليء بالمكونات المختلفة ولديه حضارة عريقة تمتد لأجبال، لذلك لا ينبغي أن يكون مجرّد قرار إداري. بل خطوة مدروسة تبنى على التراث الثقافي والتاريخي، مع الأخذ بعين الاعتبار أن يمثل جميع المكونات السورية في صياغته، وأن يتجنّب الرموز المرتبطة بالاستبداد أو الحرب.
النشيد في النهاية ليس مجرّد أغنية تُعزف كلّ صباح، بل مرآة للهويّة الجماعية وصوتاً للمستقبل.
سوريا اليوم، وهي تبني مستقبلها الجديد، تحتاج إلى هذا الشعور أكثر من أيّ وقتٍ مضى. النشيد الوطني ليس مجرّد أغنية تُعزف في طابور المدرسة، بل هو رمز يوحّد القلوب ويزرع بذور الانتماء في نفوس الأطفال الذين سيقودون سوريا غداً. إنّه وعدٌ جماعيّ بالوحدة، ورسالة للأجيال: أنّ هذا الوطن لنا جميعاً.
إنّ الوقت قد حان لاتّخاذ قرار حاسم حول النشيد الوطني السوري، قرار يضع مصلحة الأجيال القادمة فوق كلّ الاعتبارات، ويضمن لسوريا الجديدة رمزاً وطنيًّا يجمع ولا يفرق، ويبني ولا يهدم. ولكي نبني سوريا جديدة، علينا أولاً أن نمنحها صوتاً جديداً يردّده أطفالها بفخرٍ وانتماء.