فنون
نصف الساعة الأولى من فيلم “One Battle After Another” أو “معركة تلو الأخرى” قد تبدو مملّة وعشوائية، لكن ما إن نصل إلى الساعتين التاليتين حتى نكتشف أنّ تلك المقدّمة لم تكن سوى كمين فنّي متعمّد لجعلنا نشعر بالارتباك قبل أن تنهال علينا تحفة فنية مشبعة بالأكشن، والإثارة المتواصلة، والكوميديا السوداء الساخرة، والمفاجآت غير المتوقعة.
لعلّ أكثر ما يثير الدهشة أنّ هذا الفيلم هو للكاتب والمخرج “بول توماس أندرسون”، المعروف بالأفلام التي يغلب عليها السرد المتأنّي والتوغّل في أعماق الشخصيات، فقد خاض هنا تجربة جديدة ومختلفة كلّيًا، وأقرب إلى أفلام “كوينتين تارانتينو” والأخوين “جويل كووين” و”إيثان كووين”، التي تمزج بين الحوارات اللاذعة، والشخصيات الملتوية، ومشاهد الأكشن الجنونية، والنتيجة هي أفضل فيلم في مسيرته ككاتب ومخرج.
تدور أحداث الفيلم حول “بوب”، وهو رجل ثوري سابق يحاول أن يعيش بهوية جديدة بعيدًا عن ماضيه مع ابنته المراهقة “ويلا”، لكن ظهور خصمه القديم الكولونيل “لوكجو” يقلب حياته رأسًا على عقب، فيجد “بوب” نفسه مجبرًا على خوض مواجهات عنيفة وسط صراعات سياسية تكشف عن الوجه المظلم لأمريكا المعاصرة.
قوة الفيلم الحقيقيّة تكمن في النص السينمائي الذي كتبه “بول توماس أندرسون” بجرأةٍ واقعية قاسية، مستلهمًا الفكرة من رواية “Vineland” للكاتب “توماس بينشون”، التي أصدرها في عام 1990، والتي تفضح أسطورة الحلم الأمريكي وهيمنة السلطة والعبث السياسي، بإظهار أمريكا لا كأرض أحلام، بل كساحة صراعات، بمهاجرين غير شرعيين يُستنزفون بلا رحمة، وسلطة منشغلة بتثبيت نفوذها أكثر من رعاية شعبها، وعنصرية مقيتة تتغلغل في نسيج المجتمع.
نادرًا ما نجد فيلمًا يجتمع فيه هذا الكم من الأداءات المبهرة، وتحديدًا “شون بن” يعود هنا بأقوى أداء له منذ أعوام طويلة بشخصية الكولونيل “لوكجو”، مجسّدًا الشر ببرودة أعصاب وهدوءٍ قاتل، وذكّرني قليلًا بشخصية “أنتون شيغور” التي تقمّصها “خافيير باردم” بإبداع لا يوصَف في فيلم “No Country For Old Men”.
وكبطل لهذا الفيلم، ما يميّز أداء “ليوناردو ديكابريو” بشخصية “بوب” هو قدرته على الجمع بين التناقضات، كرجلٍ يتأرجح بين النبل المزعوم والانهيار الداخلي، وفي الوقت نفسه يُظهر صدقًا عاطفيًّا عميقًا في علاقته بابنته “ويلا”، لتغدو هذه العلاقة القلب النابض للفيلم وسط صخب العنف والسياسة، وقد أبدع حقًّا في تجسيد الشخصية، وكذلك “تشيس إنفينيتي” بشخصية “ويلا”.
تألّقَ “بينيشيو دل تورو” في شخصية المعلّم الحكيم “سيرجيو”، الذي يقف إلى جانب البطل “بوب”، ويساعده في الخروج من الأزمات بروح كوميدية مرحة وساخرة جعلته من أكثر الشخصيات المحبوبة في الفيلم، ولا أنسى بقية الممثلين الذين قدّموا أداءً متميزًا، بمن فيهم “ريجينا هول” بشخصية “دياندرا”.
الموسيقى التصويرية التي ألّفها “جوني غرينوود” كانت عنصرًا محوريًّا في الفيلم، وبارزة طوال الوقت، من خلال صوت البيانو الصاخب الذي يتكرّر كصفّارة، والجاز المظلم الممزوج بالإيقاعات الإلكترونية، لتصبح الموسيقى نفسها مصدر التوتر المتواصل، والفيلم متميّز في جوانبه الفنية، بتصوير متقن ومونتاج محكم، ومشاهد أكشن ومطاردات مبهرة، ومؤثرات صوتية صُممت بعناية ضاعفت من حدّة التوتر.
إنّه حقًّا فيلم رائع وممتع ومشوق يختبر صبرك في بدايته ليمنحك في النهاية تجربة لا تُنسى، عبر أداءات استثنائية من ممثلين مبدعين، ونص قوي وجريء، وإخراج يرسّخ موهبة “بول توماس أندرسون” كأحد أبرز صنّاع الأفلام في جيله، وبكلّ تأكيد سيكون الفيلم منافسًا شرسًا في جوائز الأوسكار القادمة.


