مشاركات سوريا

بين الحملات الشعبية وصندوق التنمية.. تنافس أم تكامل؟

أكتوبر 3, 2025

بين الحملات الشعبية وصندوق التنمية.. تنافس أم تكامل؟

شهدت المحافظات السورية منذ شهر آب/أغسطس 2025 موجة غير مسبوقة من الحملات الشعبية، بدأتها محافظة حمص وانتقلت إلى بقية المحافظات في مشهد تنافسي على من يجمع أموالاً أكثر. جمعت المحافظات حتى الآن ما يقرب من 400 مليون دولار من “أربعاء حمص” إلى “أبشري حوران” مروراً بـ”ريفنا بستاهل” و”دير العز” وصولاً إلى الحملة الأخيرة “الوفاء لإدلب” التي أعلنت جمع نحو 208  ملايين دولار.

 

تعد هذه الحملات أحد الديناميات التي قادها المجتمع المدني برعاية مجلس المحافظة والمجالس المحلية لتعويض غياب الحكومة في دمشق وسوء الخدمات، وعدم انطلاق عملية إعادة الإعمار حتى الآن، والأهم الحاجة الماسّة لتنفيذ مشاريع خدمية بالسرعة القصوى جرّاء حجم الاحتياجات الكبيرة.

خلقت هذه المبادرات شعوراً لدى المواطنين بالقدرة على الفعل والتضامن، لكنّها في الوقت نفسه طرحت أسئلة حول العدالة، وتوزيع الثروة، ودور الدولة في هذا السياق.

 

مقابل تلك الحملات، تأسس قبل فترة قصيرة صندوق التنمية السوري SYDF كجهةٍ مركزية من دمشق يهدف إلى جمع الأموال وتوظيفها في مشاريع على مستوى سوريا كلّها. يصف نفسه أنّه كيان يتمتع بالاستقلال المالي والإداري ويرتبط مباشرة برئاسة الجمهورية، تمتد مهمته إلى ما بعد إعادة إعمار البنية التحتية الحيوية من طرق وجسور وشبكات مياه وكهرباء لتشمل الجوانب التي تؤثر بشكلٍ مباشر على حياة المواطنين اليومية، ويستهدف تنشيط الاقتصاد عبر تمويل المشاريع التنموية التي تخلق فرص عمل جديدة وتمكّن الأفراد، كما يشير في موقعه الرسمي.

 

ويقدم الصندوق نفسه كمنصةٍ قادرة على التحدث مع المانحين والمنظمات الدولية، واستقطاب أموال أكبر بكثير من قدرة المبادرات الشعبية المحدودة. غير أنّ إطلاق الصندوق فتح سؤالاً جدلياً: هل هناك ضرورة للصندوق لتنظيم الجهود الشعبية والحصول على أموال أكثر؟ أم أنّ الصندوق يعد تغوّلاً على مبادرات المجتمع المدني ومقدمة لعودة مركزية خانقة انطلاقاً من دمشق؟

 

الميزة الأبرز للحملات الشعبية أنّها تنبع من القاعدة الاجتماعية نفسها، فالأهالي هم من يقررون الأولويات ويدرسون الاحتياجات، وهم من يموّلون وينفّذون. تعطي هذه الميزة شرعية محلية قوية، ويجعلها أكثر استجابة لاحتياجات الناس المباشرة. لكن في المقابل، هناك حدود موضوعية لتلك الحملات:

 

أولها مرتبط بالتمويل بين المحافظات، إذا كانت إدلب قادرة على جمع 208 مليون دولار، فإنّ حمص لم تجمع سوى 13 مليون دولار، هذا التفاوت لا يعكس حجم الاحتياجات الفعلية بقدر ما يعكس كثافة السكان، وشبكات المغتربين، والحماسة التنظيمية. والنتيجة المحتملة هي خدمات متفاوتة بين محافظة وأخرى، ما قد يعمّق التباينات الجغرافية والاقتصادية.

 

ثاني الحدود هو غياب الرؤية الوطنية، حسناً ما قامت به المحافظات من جمع التبرعات لكن كلّ حملة تفكر ضمن إطارها المحلي وليس على سياق الوطن، إذ لا وجود لآلية تنسيق الأولويات بين المحافظات، ما يعني أنّ بعض القطاعات قد تُهمل مقابل تكرار الإنفاق في أخرى. في حين يحاجج البعض أنّ الفكرة بحد ذاتها هي تمثيل لنظام اللامركزية، بالتالي كلّ محافظة تفكر لوحدها وفق احتياجاتها وقدراتها واجتهادها، ولا داعي لتدخل المركز.

 

النقطة الأهم هي المحدودية في استدامة التمويل، هذه الحملات تعتمد غالباً على الحماسة اللحظية والتعبئة العاطفية. لكن إعادة إعمار سوريا سيحتاج إلى تدفقات مالية مستمرة، لا إلى موجات متقطعة، وستحتاج إلى عشرات مليارات الدولارات.

 

في مواجهة هذه الحدود، نشأت فكرة صندوق التنمية كإطارٍ أوسع قادر على جمع وإدارة مليارات الدولارات. لديه القدرة على التفاوض مع المانحين الدوليين والدول الصديقة، ووضع أولويات وطنية للتنمية تشمل كل المحافظات، وسد الفجوات بين المناطق الأكثر فقراً والأقل قدرة على جمع الأموال.

لكن رغم ذلك، هناك مخاوف حقيقية لا يمكن تجاهلها في هذا السياق، مردها المركزية، فالسوريون دفعوا ثمناً باهظاً من نظام حكم مركزي شديد التحكم بالأطراف. وأيّ مؤسسة جديدة تحمل ملامح مشابهة ستُقابل بريبةٍ ورفض.

 

البعض ينظر للصندوق على أنّه تغوّل على دور المنظمات الإنسانية والتنموية والمجتمع المدني بطبيعة الحال، إذا استحوذ الصندوق على الموارد واحتكر القرار، سيضعف المبادرات المحلية التي أثبتت أنّها أكثر حيوية ومرونة. أيّ صندوق من هذا النوع لن يكتسب ثقة الناس إلا إذا وضع آليات صارمة في المشاركة والرقابة والمحاسبة، بما يشمل شفافية كاملة في الإعلان عن الإيرادات والمصروفات والمشاريع.

 

الحقيقة أنّ سوريا الخارجة من حرب مدمرة تحتاج إلى نحو 400 مليار دولار لإعادة إعمارها، لنأخذ 10% من هذا الرقم وهو 40 مليار، فهو أقرب للواقع، وهو ما يتجاوز بمراحل قدرة المجتمع المحلي على التمويل الذاتي. الحملات الشعبية وحدها، مهما بلغت أرقامها، ستظل عاجزة عن سد الفجوة الهائلة. في المقابل أيضاً إذا عمل الصندوق دون انفتاح على المجتمع المدني، سيواجه أزمة شرعية ورفضاً اجتماعيًّا.

 

والحل هنا، لا يكمن في المفاضلة بين أحدهما على حساب الآخر، بل في صياغة علاقة تكاملية بين الطرفين. على المجتمع المدني أن يستمر في إطلاق حملات تعبئة وجمع تبرعات على المستوى المحلي، بما يضمن مشاركة الأهالي في اتخاذ القرار والشعور بملكية المشاريع.

 

في المقابل على الصندوق أن يعمل أيضاً مستفيداً من أدواته الدبلوماسية والمالية لاستقطاب أموال المانحين وتوزيعها بعدالة بين المحافظات. على أن يكون هناك آلية تنسيقية شفافة تسمح بإشراك ممثلي المجتمع المدني في إدارة الصندوق أو الرقابة على أعماله، بحيث لا يشعر الناس أنّه جهاز فوقي يقرر عنهم.

النقطة الأهمّ هي مسألة العدالة الجغرافية، إذا حصلت إدلب على مشاريع وخدمات بجودةٍ عالية بفضل قدرتها على جمع تبرعات ضخمة، بينما عانت درعا أو دير الزور من ضعف التمويل، فهذا سيخلق فجوات وهجرات وربما نزاعات جديدة. هنا يظهر دور الصندوق كأداةٍ لتصحيح التفاوتات وضمان حد أدنى من الخدمات في كلّ محافظة، بصرف النظر عن قدرتها على جمع التبرعات.

 

النقاش الحقيقي ليس من يحتكر التمويل، بل حول كيفية إدارة الموارد بعدالةٍ وشفافية وتشاركية في صناعة القرار، وكيفية الموازنة بين حيوية المبادرات الشعبية وضرورة وجود إطار وطني جامع.

 

إعادة الإعمار ليست مجرد بناء جدران بل إعادة بناء الثقة بين المجمتعات المحلية والمؤسسات الحكومية، وهذه لن تتحقق إلا إذا شعر السوريون أنّ أصواتهم واحتياجاتهم حاضرة في كلّ مؤسسة حكومية.

 

في النهاية، لستُ مع المفاضلة بين الحملات الشعبية وصندوق التنمية، بل مع التكامل بينهما. الحملات الشعبية يجب أن تستمر لأنّها تعكس نبض المجتمع وتمنح الناس الإحساس بالمسؤولية والمشاركة المباشرة. لكن في الوقت نفسه، سوريا بحاجةٍ إلى إطار أوسع بحجم صندوق التنمية، شرط أن يعمل وفق صيغة تشاركية حقيقية. أي أن يكون للمجتمع المدني دور واضح في رسم الأولويات وتقييم الاحتياجات، وأن تُشرك المحافظات في اتخاذ القرار لا أن يُفرض عليها من فوق.

 

وفي هذا الإطار قد يكون وجود ممثل للصندوق في كل محافظة يُختار من قبل المحافظة نفسها وليس من قبل الصندوق، يتواصل مع الفاعلين المحليين، يقيّم احتياجات المحافظة، ويتابع التنفيذ، وسيلة عملية لضمان الشفافية والعدالة والمشاركة والمسائلة والرقابة. بهذه الطريقة يصبح الصندوق جسراً بين المبادرات الأهلية المحلية والمانحين الدوليين، بدل أن يكون جهازاً مركزيًّا معزولاً أو منافساً للمجتمع المدني.

شارك

مقالات ذات صلة