مدونات

أزمة منتصف الفكر: الحياد أو ثمن الموقف

أكتوبر 3, 2025

أزمة منتصف الفكر: الحياد أو ثمن الموقف

الكاتبة: فاطمة الزهراء حبيدة

تتوالى الأحداث المجتمعية المثيرة للجدل في حياتنا العامة، وتفرض على المثقف أن يترجل من برجه العاجي ليشارك في هموم الناس ويُدلي برأيه في القضايا التي تمس الشأن العام مباشرة. هنا يظهر التحدي الأصعب، إذ لا يقتصر دور الكاتب على عقد لقاءات أدبية أو ورشات تكوينية أو تقديم نصائح تقنية في الكتابة، بل يتجاوز ذلك ليكون صاحب موقف ورأي، انسجامًا مع مسؤوليته المجتمعية. لكن هذه المهمة لا تخلو من ضريبة، ليست ضريبة مادية أو إدارية كالتي تُفرض على الكتب عند شحنها، بل ضريبة فكرية ونفسية تتجلّى في القدرة على المخاطرة وأداء ثمن الكلمة، ولو كان باهظًا. والسؤال الذي يطرح نفسه: من يمتلك الجرأة على قول كلمته دون أن يفكر في العواقب؟ الكاتب حين يطلق كلماته يتركها تشق طريقها بلا يقين بمآلها، لكنّه يعلم داخليًّا أنّها ستصل في النهاية، غير أنّ التحدي الأكبر يكمن في تجاوزه لمرحلة المنتصف والحياد الموهوم. فهل ينجح الكاتب في ذلك؟

ضريبة الموقف: ثمن الكتابة

الآراء والمواقف ليست بلا ثمن، فضريبتها تُدفع من الوقت والجهد، وأحيانًا من العلاقات والصداقات، أو من الامتيازات التي يضطر الكاتب للتخلي عنها في سبيل التعبير عن ذاته بحرية. حرية الفكر تقابلها دائمًا تضحيات، مادية كانت أو معنوية، لكنها جزء لا يتجزأ من جوهر الكتابة. لذلك، قبل أن يخوض الكاتب غمار التعبير عن رأيه، عليه أن يتهيأ للاستعداد الدائم للمحاسبة على مواقفه، سواء في بيئةٍ محافظة أو منفتحة. فالمسألة لا ترتبط بالظرف أو المجتمع وحده، بل بما يتبناه الكاتب من أفكار، وبقدرته على الدفاع عنها دون أن يغرق في التناقض بين ما يظهر وما يُخفي. الكاتب الذي يقبل أن يكون قلمه أداة للتزييف أو لترديد مواقف الآخرين سرعان ما ينطفئ دوره، لأنّ ما يكتبه لا يرسخ في الوعي العام. ومن الأجدر بالكاتب أن يتبنّى أفكارًا خاطئة ويصححها لاحقًا حين يتيقن من ضعفها، على أن يظل مجرّد أداةٍ لتمرير آراء لا يجرؤ أصحابها على إعلانها.

أتذكر جيدًا مقالًا كتبته عن كتاب لإحدى الكاتبات النسويات المعروفة بمواقفها الجريئة، وما جره عليّ من وابل من التعليقات السلبية. ومع ذلك، لم أندم، لأنّ ما كتبته كان رأيي الخاص، والأهمّ أنّني أدركت أنّ لا سلطة تعلو فوق سلطة القلم. أمّا الكتابة لمجرّد إرضاء الآخرين أو الحفاظ على شعبية بين القراء، فهي غاية لا تحترم القارئ نفسه. القارئ الجيد يعرف أنّ من حقّ الكاتب أن يختلف، وأن لكلّ إنسان دوافعه وقناعاته، مهما بدت متناقضة أو مستفزة، ما دام يتحمل تبعات ما يكتب دون أن يُلقي باللوم على غيره.

وهم الحياد: منتصف مربك

في مجال الكتابة، لا مكان فعليًّا للمنتصف أو للحياد. كثيرًا ما استفزتني تلك العبارات التي تلاحق الكاتب: “كن محايدًا”، “أنت لا تعلم إلا نصف الحقيقة”، “كن موضوعيًّا”. فما الفائدة من الكتابة إن كانت محايدة بلا موقف؟ ما الغاية من قلم يتوقف في منتصف الطريق، أو يخشى التعبير الصريح، فيستبدل الكلمات الواضحة بأخرى غامضة، ويتوارى خلف عبارات رنانة لا تُغيّر شيئًا؟ الحياد في مثل هذه القضايا مجرّد فرملة تُبطئ حركة الفكر أو توقفها، وفي أسوأ الأحوال تُحوّل الكتابة إلى أداة لتلميع الواقع أو الحفاظ على علاقاتٍ سطحية داخل الوسط الثقافي.

كم مرة سمعنا في الملتقيات الفكرية توصيات تدعو للحياد، والالتزام بقوالب منهجية وشكلية صارمة؟ وكم مرة خضع الكُتاب لهذه التعليمات، ليكتشفوا في النهاية أنّ النقاد أنفسهم هم الأكثر قسوة في انتقادهم، فقط لأنّهم انصاعوا لتلك الإملاءات؟ حينها يدفع الكاتب ضريبة أفكار غيره بدل أن يعبر عن صوته، ويخسر جوهر الكتابة الذي يقوم أساسًا على الصدق والمواجهة.

الكتابة للجمهور: مشنقة الكاتب وحياد مفروض

من أبرز أسباب الانزلاق نحو الحياد أو مسايرة القطيع، هو تحوّل الكاتب من “مثقف” إلى “مؤثر”. فمع انخراطه في مواقع التواصل الاجتماعي، أصبح يخضع منتوجه الفكري لمعايير عدد المتابعين وحجم التفاعل. صحيح أنّ الحضور الرقمي يخدم الكاتب في الانتشار، لكنّه إن استسلم للجمهور، صار أسيرًا له. الكاتب الذي لا يُربك محيطه ولا يخرج عن المألوف يبقى رهينة رغبات متقلبة لجمهور متناقض الأفكار، يتأثر بالوعي الجمعي أكثر ممّا يقوده.

وهنا يبرز سؤال جوهري: هل يكتب الكاتب ليعبر عن ذاته وقناعاته، أم ليحتشد حوله الجمهور فقط؟ وهل ينتقل بذلك من “التعبير عن الذات” إلى “الصمت المفروض”، حيث يغيب صوته الخاص لصالح إرضاء الآخرين؟ التحدي يكمن في أن ينخرط الكاتب في النقاش العام بفاعلية دون أن ينجر تحت سلطة الجماعة، وأن يظل محتفظًا بفرادته وسط الضجيج.

صحيح أنّ وضع الكاتب العربي اليوم شديد الإرباك: تحديات النشر، صعوبات الكتابة، التهميش الاجتماعي في بعض الدول، كلها عوائق ثقيلة. لكن رغم ذلك، لا يمكن للمثقف أن يتنصل من دوره الأساسي: الانخراط في الحياة العامة، ونقلها إلى نصوصه وأعماله، ليبقيها حاضرة في المشهد الثقافي. هنا يظهر الفارق بين من يكتب ليكتب، ومن يكتب ليؤثر. تراجع دور الكتاب والمثقفين في النقاشات العامة أفسح المجال للتفاهة، لا باعتبارها تسلية بريئة، بل بتحويل النقاش من قضايا مصيرية تحتاج إلى تحليل وفهم، إلى مسائل هامشية لا تضيف شيئًا. عندها لا يحق لنا أن نشتكي من تراجع المحتوى الثقافي وضعف الجدية، لأنّ النتيجة طبيعية: لا أحد يريد أن يؤدي ثمن الموقف، لأنّه مكلف جدًّا.

شارك

مقالات ذات صلة