مدونات

من التجويع إلى تهريب الذهب.. ماذا تفعل الإمارات بالسودان؟!

أكتوبر 1, 2025

من التجويع إلى تهريب الذهب.. ماذا تفعل الإمارات بالسودان؟!

الكاتب: مصطفى نصار

بعد نجاح ثورة السودان في أبريل 2019، توغلت دولة الإمارات بشكل منهجي لتثبيت أقدامها في البلاد مستغلةً الحالة المزرية والفراغ السياسي والاجتماعي الذي رافق خلع عمر البشير. دخلت أبوظبي سريعًا إلى ساحات النفوذ الاقتصادية والسياسية، فوسّعت امتيازاتها في قطاعاتٍ استراتيجية مثل التنقيب عن الذهب والزراعة الحديثة، عبر اتفاقات وتفاهمات مع قيادات عسكرية مدنية آنذاك — ومن ثمّ مع طرفي الصراع العسكري اللاحقين: قائد المجلس العسكري عبد الفتاح البرهان وزعيم ميليشيا الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي).

لقد حوّلت الإمارات مصالحها الاقتصادية إلى أدوات نفوذ سياسية؛ فمع تثبيت وجودها الاقتصادي وتحصين امتيازاتها في موارد البلاد، بدا لها أنّ الأجواء مهيّأة للتعمق سياسيًّا. استثمرت أبوظبي ثقلها الإقليمي والضغط على ملف رفع العقوبات والتطبيع مع إسرائيل كأدواتٍ للنفوذ، فكان للتقارب مع أجهزة السلطة السودانية مؤخرًا أثره في شروط وخيارات الفعل السياسي داخل الخرطوم. وقد قاد هذا المسار، بحسب ما أورده محلّلون وباحثون في شؤون الخليج، إلى تظهير محور منشق يعمل لصالح مصالح إماراتية إقليمية، محورٌ استُخدمت معه ميليشيات محلية كقوّة نفوذ للتمكين من واقعٍ جديد في السودان.

في هذا السياق، شهدت الفترة التالية للثورة لقاءات واتصالات سرية بين قادة سودانيين وإسرائيليين، أُعدت وفق روايات عدة كخرائط طريق للتطبيع، وأثارت غضب الشارع السوداني لما تضمنته من خياناتٍ رمزية أمام مطالب الحراك الشعبي. ويشير تحليل أندرياس كريج، الباحث في دراسات الخليج، إلى أنّ أحد اللقاءات التعريفية مثل “مبتدأ الحرب الأهلية الصامتة” التي فُجرت لاحقًا على الساحة السودانية، وأنّ هذه اللقاءات مهّدت لمرحلة تدخل خارجي مهيكلة أدت إلى احتدام الانقسامات بين مكوّنات السلطة.

تطوّر الوضع بعد ذلك إلى صراع علني على نموذج الدولة والمكانة السياسية: أولاً كان الاتفاق المبدئي في يناير 2023 على تشكيل مجلس انتقالي برئاسة شخصية مدنية مع مشاركة عناصر ميدانية، لكن نقاشات بنود تفكيك الدعم السريع وطبيعة اندماجها في مؤسسات الدولة أدّت سريعًا إلى تصدّعات عميقة. إذ ضغط حميدتي لإطالة مدة الاندماج أو إعادة صياغته بما يضمن موطئ قدم دائم لميليشياته، وهو ما رجّح كثيرًا أن تكون له مشاورات واستشارات خلف الكواليس مع جهاتٍ إقليمية كانت لها مصلحة في بقاء نفوذٍ موازٍ داخل السودان.

ومن الزوايا المتشابكة لهذا التدخل الإماراتي في السودان، أُشير إلى عدم الاكتفاء بالوجود الاقتصادي؛ إذ جرى توظيف المال والتسليح واللوجستيات لتأجيج النزاع حيناً، وللحفاظ على علاقات نفوذٍ دائم حيناً آخر. وقد تناول تقرير صحفي للمخضرم أوسكار ريكيت حدود هذا الدور، محدّداً مصالح الإمارات بما يتجاوز مجرّد حماية استثمارات إلى احتضان شراكات أمنية وعسكرية سرية، بل ربما إلى صناعة حرب ظل بالوكالة مع قادة ميليشيا محليين.

تهريب الثروات وغسيل الأموال والتمويل غير المشروع، بحسب الرؤية التي يطرحها كثير من الناشطين والباحثين، بات يشكّل ركناً أساسيًّا من هندسة هذا النفوذ. فالهيمنة على تعدين الذهب وتحكّم سلاسل التهريب وتسييل المعادن الثمينة قد شكّلت قناة ضخمة لأموالٍ عسكرية؛ أموالٌ تحوّلت إلى مشتريات أسلحة وذخائر وطائرات مسيّرة، وتقدّر بعض الإشارات بحجمٍ تراكمٍ مالي يتجاوز عشرات المليارات — ما أنتج معطيات مروعة من حيث توريد شحنات أسلحة ومعدات قتالية وصلت إلى ميليشيات وتشكيلات مسلحة في السودان. وهذه المعطيات، بحسب ما ورد في عدد من التحقيقات، ارتبطت بتفاقم الأزمات الإنسانية، وتصاعد حدة المراحل القتالية في مناطق مثل الفاشر، التي شهدت مأساة إنسانية من جوعٍ وحصار وقصف.

مع تدهور الأمن الغذائي وامتداد دائرة النزاع، برزت سياسات التمويه والذرائع الإنسانية في عمليات الإمداد العسكرة. ففي أوائل يوليو تعرّضت عدة شحنات — قيل إنّها مساعدات إنسانية — إلى مساراتٍ لوجستية مشبوهة أدت إلى وصولها جزئيًّا أو كليًّا إلى أيدي مليشيات الدعم السريع، وفق روايات ميدانية ووثائق تداولتها وسائل إعلام ومصادر محلية؛ وهو ما ولّد اتهامات مباشرة لأطرافٍ خارجية بتقديم غطاءٍ إنساني لتمويلٍ عسكري. وقد استغلت قوى التدخل هذا الواقع لتطويق معاناة المدنيين عبر شبكة امدادات تخللتها عمليات تهريب وتحويلات مالية مشبوهة، في حين شهدت مناطق شاسعة مخاطر مجاعة حقيقية تهدد مئات الآلاف — بحسب تقديرات مؤسسات إنسانية ذُكرت في تقارير متعددة.

لا يقف السجال على بعدٍ إنساني فقط، بل إنّ أبعاد الحرب في السودان تحوّلت إلى ساحة تنافس إقليمي أشمل: تركيا وإيران من جانب، والإمارات وحلفاؤها من جانب آخر، تتنافس كلٌّ على امتلاك مراكز نفوذ استراتيجية في الخرطوم وما حولها. ونتيجة هذا التنافس تحوّلت بعض سُبل التدخّل إلى دعم تشكيلات مسلحة أو توظيف مرتزقة أجانب — وقد ظهرت روايات عن وصول مجموعات مرتزقة من دول أميركيات لاتينية ودُول أفريقية متدنية الرقابة، ما دفع حكومة كولومبيا في وقت لاحق إلى اعتذارٍ رسمي تحت وطأة الضغوط الإعلامية والمنظمات الحقوقية، كما تناقلت تقارير إقليمية ودولية.

عمليًّا، تُرى الإمارات السودان كمنصةٍ إقليمية تتيح لها الوصول إلى احتياطياتٍ معدنية وزراعية في دول أفريقية مجاورة أيضاً؛ فتنفّست خطط نفوذها إلى دولٍ مثل تشاد والنيجر وجمهورية الكونغو الديمقراطية، معتمدةً نظمًا استخباراتية وتجارية لتحديد مواقع الثروات وتأمين طرق استخراجها وتهريبها. وبهذه الأساليب، تُعيد إلى الواجهة نقاشات حول “الاغتيال الاقتصادي للأمم” كما عبّر عنه جون بركينز في كتابه، أو سياسات “التركيع بالتجويع” كما يسمّيها بعض المحللين المحليين، حين تتحوّل الموارد الوطنية إلى آلاتٍ للهيمنة والإفقار بدلًا من كونها أدوات تنمية لصالح الشعوب.

وفي امتدادٍ لهذا النمط، تستثمر قوى إقليمية متنافسة (تركيا وإيران من ناحية، والإمارات وحلفاؤها من ناحية أخرى) الاضطرابات في السودان للوصول إلى مكاسب سياسية واستراتيجية؛ فكلّ طرفٍ يريد أن يخرج من المشهد السوداني بملف يسمّيه “النصر” أو “الشرعية” لصالحه، بينما يدفع السودانيون ثمنًا باهظًا من دمائهم وفرضيات حياتهم اليومية. لقد تحوّل الصراع إلى لعبة إقليمية تُختزل فيها سيادة دولة وشعب بأدوات النفوذ الخارجي.

خلاصة القول إنّ النهج الإماراتي في السودان، كما تبيّن من مجموعة الأدلة والتحقيقات الميدانية، لم يكن سياسيًّا فحسب بل تدميريًّا في طبيعته؛ إذ استغل عطش المال والسلطة لدى بعض قادة الميليشيات ليبني نفوذاً دائمًا يستند إلى تحالفات مسلحة واقتصادية. وإذا انتصرت هذه الخيارات، فثمن “الانتصار” سيكون تحويل السودان إلى مشروع مستعمرات نفطية ومعدنية وسياسيًّا مفرّقًا، وفتح الطريق لسيناريوهات تقسيم احتكاري تضمن هيمنة خارجية على ثرواته وموارده.

لقد انتهى الحال بأن تُصبح السودان ساحة مفتوحة للمزايدات الإقليمية، حيث يقول الكاتب السوداني منصور محمد: «السودان لا بواكي له»، وتُعيد الصحافة الغربية والحقوقية —مثلما فعلت نسرين مالك في مقالاتها— رثاء بلدٍ كان يطفو على بحورٍ من الإمكانات الزراعية والمعدنية قبل أن يتحوّل إلى مطمعٍ في لعبة كبرى من النفوذ والنهب.

في النهاية، يفرض واقع التدخل الإماراتي في السودان قراءة قاسية: إنّها استراتيجيةٌ تدميرية مبنية على رهانٍ قصير النظر —إنّما شديد التأثير— على استجلاب ثرواتٍ وتحويلها إلى قوةٍ عسكرية وسياسية قادرة على تغيير توازنات الدولة. إذا استمر هذا المسار، فستبقى الحكومة والشعب السودانيان رهينتيْن لخياراتٍ خارجية لا تعي قيمة الإنسان، وتراهن على بسط السيطرة عبر أدوات المال والسلاح والاتفاقيات السرية.

شارك

مقالات ذات صلة