فكر
– الكاتبة: هبة الله غسان بدر
هذه العبارة تمثل جوهر فكر ميكافيللي والصفة المسؤولة عن سمعته الشريرة؛ لأنّه ببساطة يفصل السياسة عن الاعتبارات الأخرى ويكتب عنها كما لو أنّها غاية في حد ذاتها. إنّ الأثر العميق الذي خلّفه في علم الدولة وفن السلطة، هو هذا الفصل بين السياسة والأخلاق، داعياً إلى استقلال السياسة وأنّ غايتها الوحيدة ازدهار الدولة، سواء كانت سياسة ظالمة أو حتى غير جائزة شرعاً، فللوصول إلى غرض سياسي يبيح كلّ الطرق حتى القتل والكذب. واليوم، يمكن للمتأمل أن يجد في نظام بشار الأسد صورة حيّة لهذه الممارسات.
قدّم مجموعة نصائح عمليّة يجب اتباعها، أبرزها أن يكون الحاكم مستعداً لاستخدام جميع الوسائل الممكنة للحفاظ على وجوده. وفي هذا الصدد يقول: من الأفضل للحاكم أن يخافه الناس على أن يحبّوه، فالمحبّة وحدها ليست ضماناً للسيطرة، كما أكّد أنّ الحاكم الناجح هو من يضع مصلحته فوق مصلحة شعبه وفوق أيّ اعتبار آخر. هذه الرؤية الواقعية جعلت الكتاب مرجعاً لفهم السلوك السياسي بعيداً عن المثاليات. وإذا نظرنا في تجربة بشار الأسد، نجد أنّ كثيراً من هذه الأفكار تجسّدت بوضوح.
اختار الأسد مسار العنف المفرط، وهذا ما شهدناه في مواجهة الثورة السورية عام 2011، مفضلاً بقاءه في الحكم ولو على أنقاض المدن المدمرة وملايين الضحايا والمهجّرين. لم يتردد النظام في استخدام كلّ الوسائل الممكنة، من القصف على الأحياء السكنية وتدميرها، إلى الاعتقالات الجماعية التي طالت عشرات الآلاف، وصولا إلى تهجير الملايين. علاوة على ذلك، غلّب مصلحة النظام على مصلحة الشعب، واعتمد على التحالفات الخارجية وهنا يظهر البعد الأناني؛ فالعلاقات التي نسجها الأسد مع روسيا وإيران مثلاً، لم تكن بهدف حماية سورية كدولة أو شعب، بل لضمان استمرار وجوده في السلطة، فروسيا وفّرت الغطاء العسكري، بينما قدّمت إيران المليشيات. هذا يتوافق مع نصائح ميكافيللي عن ضرورة استخدام كل الأوراق الممكنة، حتى إن كان الثمن تفكيك المجتمع.
الأكثر وضوحاً أنّ الأنانية السياسية لدى الأسد جعلت الدولة السورية تفقد مقوماتها، إذ تحوّلت الأولوية من تطوير المجتمع إلى البقاء في سدّة الحكم. هذه المفارقة تعكس بدقة ما وصفه ميكافيللي، الحكم ليس خدمة عامة بقدر ما هو صراع مستمر للبقاء.
هنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ ميكافيللي لم يكتب “الأمير” ليُمجد الطغاة أو يشجع على الأنانية، بل ليصف الواقع كما هو. السياسة في نظره ساحة صراع، ومن لا يُتقن قوانينها سيسقط. لكن المثال السوري وآلية حكم نظام الأسد يوضحان أنّ الإفراط في تطبيق هذه القوانين يؤدي إلى نتائج كارثية على كافة الأصعدة، حيث تضحى الدولة كلّها وقوداً لأنانية فرد واحد. ويتراجع دورها كمؤسسةٍ وطنية إلى مجرّد أداة للصراع على السلطة.
ختاماً، تكشف المقارنة أنّ سلوكيات نظام الأسد تعدّ مثالاً حيًّا على الثمن الإنساني والسياسي الباهظ الذي دفعته البلاد، نتيجة استبداد طاغية أبى إلا أن يدمر مقوماتها مقابل بقائه في الحكم، رغم خسارته للشرعية، فتحوّلت الأنانية إلى قاعدة للحكم حيث يصبح الشعب هو ثمن بقاء الحاكم، إنَّ توافق ممارساته مع أفكار ميكافيللي أعطى النظام فرصة أن يعيش فترة ثمّ يُنقل لحياة سريرية ويموت وتتحوّل “الغاية تبرّر الوسيلة” إلى وصفة لانهيار الدولة.