مدونات
يولد الإنسان محاطًا بإطارٍ لا يراه. يكبر، يتعلّم، يعمل، يحب، يتألم، ثم يكتشف أنّ الصورة التي عاش داخلها لم تكن مفتوحة كما تخيّل، بل محدَّدة ببروازٍ صلب مزخرف بما يكفي ليبدو طبيعيًّا. هذا البرواز ليس خشبًا ولا معدنًا، بل تاريخ مدرَّب وسلطة تتعلّم من أخطائها أسرع مما يتعلم الناس من آلامهم. ويُقال إنّ خمسة عشر عامًا تكفي لإفساد أمة لأنّها دورة جيل كامل، لكن السلطة الحديثة لم تعد تنتظر هذه المدة؛ صارت قادرة على إعادة تشكيل الجيل قبل أن يولد. لم تكتفِ بتوجيه الأبناء، بل أعادت قولبة الآباء أيضًا. تغيّرت المناهج كما تتغير الوجوه على الشاشات، وأعيدت كتابة الأخبار بلغةٍ جديدة، وزُرعت إعلاناتٌ تبتسم أكثر مما تبتسم أمك، وأُعيد تفسير الماضي حتى تغترب عن ماضيك وحاضرك في آن. إنّها عملية محو وإعادة كتابة لا تترك للذاكرة حصانة، فيدخل المجتمع إطارًا جديدًا أشد إحكامًا قبل أن يكتمل جيل واحد.
المعاناة التي كانت توحّد الناس تحوّلت إلى وسيلة لتفريقهم. السلطة اليوم لا تترك الألم عشوائيًّا، بل تضبطه كمنبّه: فقر محتمل، تضييق محسوب، قلق يومي مستمر. مشهد يشبه طابورًا حكوميًّا طويلًا؛ متعب لكنّه منظم بما يكفي لئلا يتحوّل إلى غضب. وهكذا يُقنع كلّ فردٍ نفسه بأنّ ألمه خاص، وأنّ مشكلته شخصيّة، وأنّ نجاته فردية، فتتحوّل المعاناة من جسرٍ إلى قوقعة، ومن رابطٍ إلى حاجز. والفردانية في ذاتها ليست خطيئة، لكنّها حين تُدار من فوق تصبح أداة تفكيك أنعم وأقسى من الحديد. يُقال لك إنّ خلاصك يبدأ منك وينتهي عندك، وإنّ المصلحة هي المنطق الأعلى. الأخلاق هنا مجرّد زينة تُستحضر حين تنفع وتُطوى حين تعيق. في الشارع، لا يبقى من العقد الاجتماعي إلا قاعدة واحدة: «الجماعة وهم، والنجاة مهارة فرد». عندها تعلو الغريزة، لا كاندفاعٍ بريء، بل كأداةٍ واعية تعرف كيف تبرّر نفسها وتتخفى بثياب المنطق.
الحيوان يقاتل من أجل البقاء ثمَّ يهدأ. أمّا الإنسان فيقاتل من أجل البقاء، وللوهم، وللرمز، ولصورته في أعين الآخرين. الغريزة هنا ليست خطرة في اندفاعها بل في وعيها بذاتها؛ وعي يتقن التبرير والتجميل، ويحوّل القبح إلى مشروعٍ قابل للتسويق. لكن حتى هذا القبح يحتاج إلى إطار جمالي يخفف قسوته، وهنا تتقدّم حقول ظُنّت مخارج خلاص: الفن والفكر والدين. فالفن لم يعد نافذة للحرية بل ستارة تُطرَّز على الجدار، يجمّل القيد ويهيئك للتعايش معه. والفكر لم يعد أداة تفكيك بل آلة ترتيب، تعيد صياغة الفوضى في نظرية قابلة للاستهلاك. والدين لم يعد طريقًا مفتوحًا للروح بل شبكة تعيد الألم إلى امتحان والقهر إلى معنى. هكذا يكتمل البرواز: ليس سجنًا صارخًا يفضحه القبح، بل إطارًا أنيقًا يغلق الصورة ويُحكم الوهم.
المشكلة ليست في كسر البرواز فقط، بل في إقناع الناس أصلًا بوجوده. الإنسان بطبعه خائف وكسول، يبحث عن مأوى لا عن فراغ. والجماعة اختارت الغياب برضاها: الحقيقة مُرهقة والوهم مُريح. كيف تقنع أحدًا بوجود الجدار وهو سعيد باللوحات المعلَّقة عليه وبالخصومات التي تزيّنه؟ يبدأ البعض بدافعٍ إنسانيّ صادق لكنّه يقطع نصف الطريق وحيدًا. يرى الوجوه تتساقط من حوله كأقنعة مسرحية عند إسدال الستار، وتتكشف الأنياب خلف الابتسامات. يكتشف أنّه يخطب في قاعة فارغة، فيجد نفسه أمام خيارين: مسايرة الواقع أو البحث عن مصلحة فردية تقيه الانهيار. كلاهما مرّ، لكن أحدهما على الأقل قابل للعيش.
الوعي هنا لا يحرّر بل يفتح جرحًا لا يلتئم. أرى ولا أقدر، أصرخ ولا يجيبني أحد. الفهم يبعدك عن القطيع لكنّه لا يمنحك قطيعًا آخر. يمنحك حكمة لكنه يثقل كاهلك أكثر مما ينجيك. يصبح الوعي عبئًا لا منارة، وجرحًا لا شفاء له. ولأنّ هذا الجرح لا يُحتمل عاريًا، يبتكر الإنسان مسكناته: فكرية تقنع النفس بأنّ ما يجري قدر محتوم، روحية تهدّئ القلق بطقس ودعاء، حياتية تستهلك الوقت بعمل ولهو واستهلاك يسد الثغرات. المسكن لا يعالج لكنّه يمنع الانهيار. قوته أنّه يسمح بالمرور من يوم إلى آخر، وضعفه أنّه يترك المرض قائمًا خلف ستارة رقيقة. ومع ذلك، لولا المسكنات لانتهت البشرية منذ زمنٍ بعيد؛ فهي المحرك الخفي للتاريخ، بها يتأرجح الناس بين الوهم والوعي الجزئي دون أن يسقطوا نهائيًا.
في السوق المفتوح، الأخلاق وظيفة تُستحضر حين توافق المصلحة وتُطوى حين تعارضها. لم تعد معيارًا مطلقًا بل أداة تفاوض. ولكي تبقى أخلاقيًّا عليك أولًا أن تبقى حيًّا، ولتبقى حيًّا قد تضطر أحيانًا إلى مساومة أخلاقك. ومع ذلك، يبقى مجال صغير لأخلاقيات صغرى: عدالة في موقف، أمانة في تفصيل، كلمة «لا» صغيرة في وقتها بدل «نعم» كبيرة تبيع روحك. لا تكسر البرواز لكنّها تمنع القسوة من أن تصبح قاعدة عامة. وكلّما زاد الوعي زادت الحكمة، وكلّما زادت الحكمة زاد الألم. الجهل راحة مؤقتة، والوعي عذاب مُضيء، والمسكنات هي الجسر بينهما. جسر لا يوصل إلى برّ، لكنّه يمنع الغرق. هذه هي معادلة البرواز: لا خلاص كامل، ولا سقوط كامل.
يبقى نطاق ضيق لكنّه صالح للعيش: وعي لا ينزف حتى الموت ولا يُخدَّر حتى العمى، أخلاقيات صغيرة تُمارَس بصدقٍ في التفاصيل، جمال متواضع لا يجمّل القيد بل يعكس صورته كما هو. البرواز لن يزول، والجرح لن يندمل، والمسكنات ستبقى. لكن بين هذه الثلاثة يمكن للإنسان أن يمر من يوم إلى آخر دون أن يفقد ملامحه الأخيرة. وربما هذا هو كل ما يُتاح لنا: أن ندرك أنّ الفهم نفسه عذاب، وأن نواصل العيش رغم ذلك.

