مدونات
تتجدد في ساحات الفكر الإسلامي موجات من الخطاب الحداثي الذي يرفع شعار «المقاصد» و«الحكمة» ذريعةً لتجاوز النصوص القطعية وتفريغ الشريعة من مضمونها. يقدّم أصحاب هذا التيار أنفسهم كرواد تحديث وتجديد، لكنّهم في الجوهر يسعون إلى تغريب التشريعات الإسلامية تحت لافتاتٍ برّاقة من الحرية والمساواة والكرامة، فيضعون هذه الشعارات فوق آياتٍ محكمة وأحاديث صحيحة، وكأنّهم يقدّمون خدمة للإنسان بينما هم في الحقيقة يفتعلون قطيعة مع حضارتهم الإسلامية ويعيدون إنتاج «حكم الجاهلية» في ثوبٍ جديد. قال تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة: 50].
المقاصد الشرعية في أصلها ليست بابًا مفتوحًا على هوى البشر، بل ثمرة لاستقراء النصوص واستنباط أحكامها. الفقهاء الكبار، من الشاطبي إلى ابن عاشور، قرروا أنّ المقاصد تُستخرج من الأدلة الشرعية ولا يمكن أن تكون حاكمة عليها أو مناقضة لها. فالمقصد لا يُتصور أن يصادم النص القطعي، لأنّ النص هو الذي أنشأ المقصد وحدده. ومن ثم فإنّ من يرفع شعار «الحرية» لإلغاء أحكام المواريث، أو «المساواة» لإبطال أحكام الطلاق، إنّما يفتري على الله الكذب ويفكك المنظومة التي استنبطت تلك المقاصد ابتداءً.
لم يكتفِ الحداثيون بالتلاعب بالمقاصد، بل تجاوزوا ذلك إلى مهاجمة أصول الفقه نفسه، لأنّه العلم الذي يحرس النصوص من التأويل المتفلت. فأصول الفقه يضبط دلالات الألفاظ ويفرق بين العام والخاص، والقطعي والظني، والناسخ والمنسوخ، وهو الذي يضع الحدود الدقيقة للفهم حتى لا يُدخل الإنسان في النص ما ليس منه. لذلك نجد أنّ الدعوات المتكررة إلى «تجديد الخطاب الديني» عند الحداثيين تقترن دائمًا بمطالباتٍ بتجاوز الأصول أو إعلان «موت أصول الفقه»، في محاولة صريحة لنزع السلاح الدفاعي الذي يحمي النصوص من التحريف.
وإذا انتقلنا إلى علم الحديث وجدنا العداء أشد وضوحًا. فالسنة النبوية هي البيان العملي للقرآن، وهي التي تكشف حدود الأحكام وتوضح مقاصدها، ولهذا تراها في نظر الحداثيين العقبة الأكبر أمام مشاريعهم. لذا يعملون على التشكيك في منهجية علم الحديث، واتهامه بالتسييس، والطعن في الرواة، بحجة أنّ بعض الأحاديث لا تنسجم مع «العقل الحديث» أو «قيم العصر». إنّهم يدركون أنّ إسقاط السنة يفتح الباب لتجريد الإسلام من تطبيقاته العملية، فيتحوّل إلى خطابٍ أخلاقيّ عام يسهل إعادة تشكيله وفق القوالب الغربية.
الهجوم على أصول الفقه والحديث إذن ليس موقفًا عابرًا، بل خطوة استراتيجية متعمدة. فإذا سقطت الأصول والحديث صار النص بلا ضابط، والمقاصد بلا أساس، والتشريع بلا سند. وحينها يتحول الإسلام إلى «إسلام ثقافي» منزوع المخالب، صالح للاستهلاك الإعلامي والتوظيف السياسي، بدل أن يبقى «إسلامًا تشريعيًّا» حيًّا يقود حياة الناس ويضبط سلوكهم.
العلماء قديمًا حذروا من هذا المنزلق. قال الشاطبي: «المقاصد تُعلَم بالاستقراء، والاستقراء لا يكون إلا من النصوص، فمن طلب مقصدًا يعارض النصوص فقد خرج عن الشريعة» (الموافقات). وقال ابن القيم: «فأي حكم خرج عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، فليس من الشريعة، وإن أدخل فيها بالتأويل» (إعلام الموقعين). لكن العدل هنا لا يُقاس بمقاييس الغرب أو بأهواء البشر، بل بمعيار ما أنزل الله ووحيه.
إنّ ما يسميه الحداثيون «رجعية» ليس إلا التزامًا بأصول الفهم التي تحفظ الدين من التبديل، وما يصفونه بـ«التخلف» ليس سوى حفاظ على أمانة الأمة من الذوبان في ثقافة الغالب. وصدق الله العظيم إذ قال: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾ [طه: 124].
الخلاصة أنّ معركة «المقاصد ضد النصوص» وهم مفتعل، وأنّ العداء لأصول الفقه والحديث ليس إلا محاولة لنزع الحصانة عن الشريعة. والمطلوب اليوم هو اليقظة الفكرية: كشف هذه المشاريع التغريبية، والتمسك بالمنهج الأصيل الذي يجمع بين النصوص والمقاصد، بين الجزئي والكلي، وبين الفهم والواقع. فلا مقاصد بلا نصوص، ولا نصوص بلا أصول، ولا فهم للإسلام بلا سنة صحيحة. ذلك هو السبيل الوحيد لصون التشريع الإسلامي وحمايته من الذوبان في مشاريع التغريب المتسترة بشعارات «المقاصد» و«الحكمة».

