مدونات
الكاتبة: كوثر قلقازي
استلقى أحمد، الفتى ذو الخمسة عشر عامًا الذي يتابع دراسته في الثانوية، على سريره بعد يومٍ دراسيٍّ شاق ومتعب. النوم يثقل جفنيه منذ الحصة الأولى، فقد قضى ليلةً سابقة بلا راحة كافية. وما إن وضع رأسه على وسادته حتى تناول هاتفه وبدأ يتصفح المواقع، لينتقل سريعًا إلى تطبيق «تيك توك» حيث تتوالى المقاطع القصيرة واحدًا تلو الآخر. لم يشعر أحمد بالدقائق وهي تمضي، فالدقيقة تحوّلت إلى ساعة، والساعة إلى ساعتين، ثمّ إلى ثلاث. هكذا انقضت ليلته حتى انتبه فجأة إلى أنّ ما تبقى لموعد استيقاظه سوى ساعاتٍ قليلة. كان يدرك أنّه لن يتمكن من التركيز في دراسته في اليوم التالي كما في الأيام السابقة، فوعد نفسه ألا يسهر مجددًا أمام شاشة هاتفه، لكنّه يعلم في قرارة نفسه أنّ هذا الوعد سيتبخر مع أول لمسة للشاشة، كما يحدث كلّ ليلة.
ما لا يدركه أحمد أنّ سلوكه هذا لا يقتصر على إضعاف تركيزه وتراجع تحصيله الدراسي أو الإضرار بصحته الجسديّة، بل يزعزع استقراره النفسيّ ويحطم توازنه الداخلي. فما الذي يفعله هذا السلوك اليومي بالصحة النفسية لشباب جيله؟
أحمد ليس حالة فريدة؛ فالشباب العربيّ يعيش اليوم موجة غير مسبوقة من التعلق بالشاشات، تحوّلت لدى كثيرين إلى إدمان حقيقيّ يعيق حياتهم اليومية. وفق تقرير Digital 2023، يتراوح متوسط استخدام الإنترنت في السعودية والإمارات ومصر بين 7 و8 ساعات يوميًا عبر مختلف الأجهزة، مع ما يقارب 3 إلى 3.5 ساعات مخصصة يوميًا لمنصات التواصل الاجتماعي وحدها.
هذا الاستعمال المفرط لا يمر من دون ثمن، إذ تتزايد بين الشباب أعراض الأرق، تشتت الانتباه، فقدان الشغف، ونوبات القلق. وتشير دراسة صادرة عن Medscape أُجريت على مراهقين تتراوح أعمارهم بين 11 و14 عامًا في اسكتلندا إلى أنّ الاستخدام المفرط للشاشات قبل النوم، وترك الهاتف في غرفة النوم، واستعمال الأجهزة خلال عطلة نهاية الأسبوع، كلها عوامل مرتبطة بانخفاض جودة النوم وصعوبة في البدء بالنوم وزيادة تقلب بدايته. وفي العالم العربي، يشعر نحو 60 بالمائة من الشباب أنّ منصات التواصل الاجتماعي تؤثر سلبًا على تقديرهم لذواتهم وصورة أجسادهم، مع شعور نسبة كبيرة منهم بقلقٍ مستمر من فوات شيء ما إذا لم يتفقدوا حساباتهم بانتظام.
أمّا دراسة أخرى صادرة عن Zippdo فتبيّن أنّ حوالي 45 بالمائة من المراهقين يرون أن الشاشات دفعتهم إلى علاقةٍ رقابية مع أجهزتهم، إذ يلجؤون إليها أكثر من رؤيتهم للأصدقاء أو أفراد الأسرة، ما يضعف التفاعل الواقعي. وأفاد 55 بالمائة منهم بأنّ وسائل التواصل الاجتماعيّ تسبب لهم القلق أو الاكتئاب.
لا يواجه الشباب العربي ضغط العالم الافتراضي وحده، بل يقف عالقًا بين مطرقة التوقعات الاجتماعية وسندان الحياة الرقمية. فمن جهة، يُطالَب بإنجازاتٍ دراسية ومهنية سريعة وإثبات ذاته في بيئة تنافسيّة قاسية، ومن جهة أخرى يعيش تحت تأثيرٍ دائم لمقارنات لا تنتهي على منصات التواصل الاجتماعي، حيث تُعرض أنماط حياة «مثالية» يصعب مجاراتها.
وتشير دراسة للمؤسسة العربية للشباب والتنمية (2023) إلى أن 68 بالمائة من الشباب العربي يعانون ضغوطًا نفسية نتيجة التقاء التوقعات الاجتماعية مع المقارنات الرقمية. كما خلص تقرير صادر عن المكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية في الشرق الأوسط (2022) إلى أنّ واحدًا من كلّ خمسة شبان في المنطقة يعاني أعراض قلق أو اكتئاب مرتبطة مباشرة بهذا التوتر المزدوج.
هذا التضارب بين ضغوط الواقع ومغريات الفضاء الرقمي ينعكس بشكل خطير على حياة الشباب والمراهقين، إذ تتقاطع الضغوط الأكاديميّة والمهنية مع معايير الجمال والنجاح الرقمية والخوف من الفشل أو الإقصاء الاجتماعي، لتتحوّل المنصات الرقمية إلى امتدادٍ للضغوط الواقعية بدل أن تكون متنفسًا لها. وهو ما يفسر تصاعد معدلات القلق، العزلة الاجتماعية، وفقدان الثقة بالنفس لدى هذه الفئة العمرية.
يدرك بعض هؤلاء الشباب حجم الخطر الذي يهدد صحتهم النفسية، ويعلمون أنّهم بحاجة إلى مساعدةٍ حقيقيّة للتخلص من تأثير العوالم الافتراضيّة، لكنّهم يفضلون البقاء أسرى هذا الخطر على مواجهة وصمة المجتمع. فخوفهم من أن يُنظر إليهم كضعفاء أو غير قادرين على مواجهة ضغوط الحياة يدفعهم إلى الصمت.
ووفق تقرير لمنظمة الصحة العالمية (2022)، فإن نسبة الشباب العربي الذين يعانون اضطرابات نفسية ويلجؤون إلى طلب مساعدة مهنية لا تتجاوز 30 بالمائة. في حين يتردد 64 بالمائة من الطلاب في زيارة مختص نفسي بسبب الخوف من نظرة المجتمع.
هذا الخوف من الوصمة دفع العديد من الشباب إلى التوجُّه نحو العيادات الافتراضية التي توفر لهم بيئة آمنة وسرية للتواصل مع مختصين. فبحسب بيانات تطبيق «استرحت» للاستشارات النفسيّة، يصرّح أكثر من 52 بالمائة من المستخدمين الجدد أنّ سرية الجلسات عبر التطبيق كانت العامل الأساسي الذي شجعهم على طلب المساعدة لأول مرة. ويؤكد أحد الأخصائيين في المنصة أنّ كثيرًا من الشباب يبدؤون حديثهم بعبارة: «لم أجرؤ على الحديث مع أحد، لكني أشعر بالأمان هنا»، في انعكاس صريح لحجم الحاجة إلى فضاءاتٍ بديلة تحمي الخصوصية وتزيل الحواجز.
وبينما يظلّ طلب المساعدة التقليدي في العيادات محفوفًا بالخوف من أحكام المجتمع، تمنح المنصات الرقمية مثل «استرحت» الشباب فرصة لطلب الدعم النفسي في أيّ وقتٍ ومن أيّ مكان، بعيدًا عن القيود الاجتماعية والنفسية.
من إدمان الشاشات وما يسببه من أرق وتشتت، إلى الضغوط الاجتماعية والرقمية التي تعمّق القلق وتضعف الثقة بالنفس، وصولًا إلى الوصمة التي تجعل طلب المساعدة أمرًا مؤجّلًا أو مخفيًا، تتراكم التحديات التي تهدد صحة هذا الجيل النفسية وتضعها على المحك.
لكن في المقابل، يفتح العالم الرقمي الباب أمام حلول مبتكرة تساعد على كسر الحواجز. فمع انتشار منصات الاستشارات النفسيّة عبر الإنترنت، بات بإمكان الشباب طلب الدعم بسرية وأمان، بعيدًا عن الأحكام الاجتماعيّة أو رهبة العيادات التقليديّة. إنّ سرية هذه التجربة تشجعهم على اتخاذ الخطوة الأولى، ما يكشف أهمية البدائل الرقمية في تمكين الشباب من مواجهة ضغوطهم النفسية.
إن الطريق نحو جيلٍ أكثر وعيًا بصحته النفسيّة يمر عبر دمج الوعي المجتمعي مع استثمار التكنولوجيا لتوفير مساحات آمنة وفعّالة، تجعل الحديث عن الضيق النفسيّ خطوة طبيعية لا وصمة. فالسؤال الذي يظلّ مطروحًا: متى كانت آخر مرة منحت فيها صحتك النفسيّة الأولوية؟

