مدونات
في بلدٍ أنهكته الحرب، وتكسّرت على أرضه أحلامُ الملايين من السوريين، وتمزّقت فيه الأنسجة الاجتماعيّة تحت وطأة النزاعات، تظل بوصلة الأمل تشير إلى شيءٍ واحد: قوة الناس حين يمدّون أيديهم لبعضهم البعض. فالتضامن الأهلي يبرز كأحد أنبل أشكال المقاومة والصمود، حيث تتحوّل التبرعات الأهليّة من مجرّد مبالغٍ مالية متفرقة إلى جسورٍ تبنى من القلوب قبل أن تُسكب في المشاريع. إنّها ليست أموالًا توضع في صندوق، بل نبض حياة وصرخة رفض للموت واليأس، وبذور تُزرع في تربة مثقلة بالدموع لتثمر مستقبلًا أكثر ازدهارًا. وجسور كهذه هي ما تحتاجه سورية اليوم أكثر من أيّ وقتٍ مضى.
لقد أثبت السوريون، كما شعوب أخرى عانت ووقفت من جديد، أنّ المجتمع حين يقرر أن يتكاتف يصبح قوة لا تُقهر. فالتبرعات التي بدأت بإغاثة عاجلة – بطانية هنا وسلة غذائية هناك – تحوّلت مع الوقت إلى ورش عمل لإعادة الإعمار: بيوت تُبنى، مدارس تُرمم، وطرقات تعود لتربط الناس بالحياة. غير أنّ القيمة الحقيقية لهذه المبادرات لا تُقاس بما يُشيّد من جدران وأسقف فحسب، بل بما يُرمم من ثقة وما يُحيى من روح التضامن. فكل حملة تبرع هي درس في الإنسانيّة، وكل ليرة تُقدَّم تعني أنّ هناك من يرفض الاستسلام للخراب.
وتؤكد التجارب أنّ التبرعات قادرة على تجاوز حدود الإغاثة الآنية لتتحوّل إلى رافعة لإعادة البناء المادي والاجتماعي. فجوهر القيمة الأعمق لهذه التبرعات يكمن في قدرتها على إعادة ترميم الروح الجماعيّة، إذ يجتمع الناس في حملات تبرع بأموالهم وجهودهم وخبراتهم لدعم المنكوبين، فتنمو بينهم روابط جديدة من الثقة والأمل. ولنا في التجارب الملموسة شواهد قوية: مؤتمر «أربعاء حمص التنمويّ»، حملة «ابشري حوران»، حملة «دير العز»، حملة «ريفنا يستأهل»، أو تجربة إعادة إعمار مخيم نهر البارد التي نجحت بفضل تكاتف الأهالي واللجان المحلية. هذه النماذج تقول بوضوح إنّ المجتمع المدني قادر، متى امتلك الأدوات، على إحداث فرق حقيقي.
ومع ذلك، يبقى التحدي الأكبر هو الثقة. فلا يمكن لهذه الجهود أن تثمر من دون شفافية ووضوح، عبر آليات دقيقة مثل التقارير المالية المعلنة، والتدقيق المستقل، والاستفادة من التكنولوجيا لضمان تتبع كل ليرة يتم التبرع بها. حينها فقط يشعر المتبرع أن ما يقدمه لا يضيع في قنوات مجهولة أو يُساء استثماره، بل يصل إلى مستحقيه، فيتضاعف العطاء.
هذه التبرعات ليست مجرد أموال، بل ثقافة حياة ودعوة لأن يرى كل فرد نفسه جزءًا من الحل لا مجرّد متفرج. وحين تتحوّل هذه الثقافة إلى ممارسة يومية، يمكن لسورية أن تُبنى من جديد، لا بالحجارة والإسمنت فحسب، بل بالثقة والوعي وروح المسؤولية المشتركة. فالتبرعات الأهلية والمجتمعية تشكل أداةً فاعلة في بناء ثقافة العطاء وتعزيز روح العمل التطوعي داخل المجتمع. وعندما يشارك الأفراد في حملات التبرع، سواء بتقديم المال أو الوقت أو الجهد، فإنّهم يشعرون بأنّهم جزء من قضية أكبر من ذواتهم، قضية خدمة الآخرين والنهوض بالمجتمع السوري بأكمله.
وتفتح التبرعات أبوابًا واسعة للتطوع، إذ غالبًا ما تتطلب تنظيم حملات، وإدارة فعاليات، وتوزيع مساعدات، أو الترويج عبر شبكات التواصل الاجتماعي. وهذه الأنشطة تمنح الأفراد فرصًا لتطوير مهاراتٍ جديدة، وبناء شبكات اجتماعية متينة، وتعزيز قيم التعاون والتكافل. ومن هنا تتحوّل المبادرات الخيرية إلى مدارسٍ حقيقية لتنمية روح التطوع والعمل الجماعي. كما أنّ رؤية الأثر المباشر للتبرعات – من أسرة تجد مأوى إلى طالبٍ يعود إلى مدرسته ومريض يحصل على العلاج – تعزّز لدى المتطوعين قناعة بأنّ جهودهم تصنع فرقًا ملموسًا، وهذا الشعور بالجدوى يغذي الاستمرارية، ويحوّل العطاء من فعل عابر إلى ممارسة مجتمعية راسخة.
واليوم، أكثر من أيّ وقتٍ مضى، تحتاج سورية إلى ثقافةٍ جديدة في العطاء؛ ثقافة لا ترى في التبرع مجرّد صدقةٍ عابرة، بل مشروعًا وطنيًا جامعًا. وحين يدرك المجتمع أنّ كلّ يدٍ ممدودة قادرةُ على أن تغيّر، يصبح الطريق إلى إعادة البناء ممهدًا لا بالحجارة فقط، بل بالقيم والوعي والانتماء. وإذا ما وُجهت التبرعات بوعي وشفافية، تصبح حجر الأساس في سورية الغد: سورية أكثر تماسكًا، وأكثر عدلًا، وأكثر إشراقًا.
إنّنا حين نتبرع معًا، لا نمنح الآخرين حياةً جديدة فحسب، بل نمنح أنفسنا وطنًا أكثر قوة وإنسانية.

