تجارب
أتأمّل هذا الخرابَ الكبير، البيوت المدمرة، النساء الثكالى، الأرامل، اليتامى، المقهورين، المشردين، النازحين، الجوعى، العطاشى، المغلوبين على أمرهم، وأسأل: هل يراهم الله؟
أنظر إلى البيوت المقصوفة، المدارس المهدومة، المستشفيات المحروقة، الشوارع المجرفة، وأسأل: هل يراها الله؟
أنظر إلى الأطفال العالقين تحت الركام، يقف رجال الدفاع المدني عاجزين أمام إخراجهم فيموتون اختناقاً وأسأل: هل يراهم الله؟
أنظر إلى الذين لا يجدون قوت يومهم، يبيتون جوعى ويستيقظون جوعى، إلى النازحين الذين تكسّرت عظامهم من النوم على الأرض، وتفتقت جلودهم من حر الشمس، وقرص البعوض، وتقطّعت أوتار عضلاتهم من حمل الحطب ودلاء الماء، وأسأل هل يراهم الله؟
أنظر إلى الجرحى الذين يئنون لا يجدون أدوية، إلى الذين بُترت أطرافهم فلا يستطيعون الحركة، يستصرخون للحصول على تحويلة طبيّة تعيد لهم الأمل، وأسأل: هل يراهم الله؟
الحقيقة، نعم الله عز وجل يرى كلَّ هذا، إنّه يرانا فهو المحيط بنا، وإن ظنّنا أنّ الاحتلال المتجبر هو الذي يحيط بنا بدباباته من البر وبوارجه الحربية من البحر وطائراته من السماء، لكن الحقيقة في الآية القرآنيّة “والله من ورائهم محيط”، يعني إحاطة العدوّ هي إحاطة جزئية قاصرة مؤقتة فانية، بينما إحاطة الله عز وجل هي الإحاطة الكلية الحقيقيّة الكاملة السرمديّة الدائمة، دائماً هنالك عناية إلهية وإحاطة لا تبصرها بتقديركَ البشريّ، لكنَّ الإحاطة الإلهيّة ممدودة وغير منقطعة، وإذا أتيح لي أن أرسم قطاع غزّة، فسأرسم حول خارطته دائرة كبيرة، وأكتب عليها:الإحاطة الإلهيّة.
والمسلم -سبحان الله- لا يحتاج شاهداً على أنَّ الله يرى كلَّ هذا، ذلك أنَّ جزئية أنَّ الله يرى، ذُكِرَتْ بهذه الصيغة، مرة واحدة في القرآن الكريم، وذلك في سورة العلق “أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَىٰ “.. وحين بحثتُ عن تفسير هذه الآية، وجدت بأنّ الله أنزلها في أبي جهل، حين كان ينهى سيدنا محمد ﷺ عن عبادة ربه والصلاة له، فأراد الله عز وجل أن يقول لأبي جهل ألا تعلم بأنني أراك وأرى أفعالك المشينة هذه وظلمك وتجاوزك عليّ وعلى رسول الله ﷺ، وكأنّ إثبات (أنَّ الله يرى) ليست للمسلم، لأنّ المسلمَ الحقَّ لا يشكُّ في مسألة هل الله يرى حاله أم لا، أمّا الكافر فيشكّ، ولذلك نزلت الآية بهذه الصيغة مع أبي جهل لكفره، وكأنّها جاءت لزجره وتخويفه من رؤية الله له، لكنْ لِعَظَمِ هذا الابتلاء بغزّة، لا بأس أن يتذكّرَ المسلمُ أنَّ الله يرى حاله، وأن يسألَ (هل يراني الله؟) ويجيب على سؤاله، ويصرخ بأعلى صوته في نزوحه وجوعه وألمه ونزفه وصبره (الله يراني، أنت يا الله تراني، يكفيني أنّك تراني، وإنْ أغمضت الكاميرات عيونها عنّي، وإن أغمض مجلس الأمن عيونه عنّي، وإن أغمض الحقوقيون الكاذبون عيونهم عنّي، وإنْ ظلَّ هذا العالمُ أعمى أمام إبادتي، أنت تراني، مالكي ومالكهم ومالك هذا الكون).
حين يملؤك ذلك الإحساس، وتعلم أنَّ الله بصيرٌ بك، وسميعٌ لك، ومحيطٌ بك، يهوّن عليكَ مشقّةَ السؤال، والبحث عن الإجابة، فتدرك في لحظةٍ أنّك لا يجبُ أنْ تكونَ مثل أبي جهل أعمى عن رؤية الله لك، بل يجب أن تكون مسلماً حقّاً كما علّمك الحبيب محمد ﷺ، فالمؤمن الحقيقي يرى بنور الله كما وصفه المصطفى ﷺ حين قال “اتقوا فراسة المؤمن فإنّه يرى بنور الله”، فحين تتحقق بهذا الإيمان العالي، تبدأ ترى بنور الله عزوجل، فترى الألطاف الإلهيّة في أقسى الابتلاءات، حينما ترى الشهداء تراهم فائزين أحياء قد نالوا خير الدنيا والآخرة، يضحكون، يستقبلهم سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ينتظرون أن يشعر الذين لم يزالوا في الحياة الدنيا بأنّهم في أفضل حال وأن يتوقفوا عن الحسرة عليهم، ترى البيت الذي انهدم كالسفينة التي ثقبها سيدنا الخضر عليه السلام في سورة الكهف، فيغدو في كلّ حجرٍ وقع خير وأجر وعلو وجبر وعوض ينتظر صاحبه، يرى القدم التي انبترت قد سبقت صاحبها تعدو في الجنة وتنتظره هناك، تصبح ترى الأشياء على حقيقتها، فتتأمل الدنيا في معناها الحقيقي فأصلها من الدنو والتدني، يظنُّ الذي يعيش في داخل غزّة بأنّه مظلوم محروم محسور، لكن مَنْ يعلم الحقيقة الكاملة؟ علّ الرحمة الإلهية كلّها تنصب على من يعيش في غزّة واللطف العظيم وهو لا يعلم، وعلّ الذي هو خارج غزّة في العذاب ومنقطع عن فيوضات المدد والرحمة التي لا تنسكب مثلما تنسكب في غزّة لخصوصية الشهداء والصبر والاحتساب، وربما حين نقف يوم القيامة، سيتمنى أهل الأرض لو كانوا معنا، لعِظَمِ الأجرِ عندَ ربنا الحكيم العدل الحق، وسبحان الله أتأملُ كثيراً حالَ أهل بدر، 313 رجلاً غيّر الله بهم مجرى التاريخ، وأعزّ بهم الإسلام، قال رسول الله ﷺ: “وما يدريك لعلّ الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم” معناه أنّه ما ضركم ما فعلتم بعد ذلك يا أهلَ بدر، وكأنّ الرحمة والمغفرة التي تنزّلتْ على أهل بدر، سترافقهم إلى آخر نَفَسٍ في حياتهم، معنى عظيم ومخصوص، ولم يكن لأحدٍ غيرهم، وهذه الخصوصيّة منتقاة، لا يصطفي المرء نفسه، إنّما الاصطفاء إلهيٌّ بحت، قياساً على خصوصيّة الشهداء في قوله تعالى “وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء”، فكما يتخذ الله الشهداء ويصطفيهم، أيضاً يصطفي الصابرين، ويصطفي المهتدين، ويصطفي المتقين، ويصطفي الذين يرون بنوره.
يا أهلَ غزّة علّ الله نظر إلينا نظرةَ رحمةٍ فلا يضرّنا ما فعلنَا بعد هذا الابتلاء العظيم.. علّ الله يرحمُنا بهذا الابتلاء العظيم، ويدرأُ عنا سوءاً أعظم ظاهراً وباطناً، ونحن لا نعلم ذلك، علَّ الله يريد أن يكافئنا مكافأة عظيمة لا تتوقعها عقولنا فكان اختبارنا عظيما. هكذا، يُعزّينا أنَّ الدنيا اختبارٌ، وأنّها لا تساوي عند مالكها جناحَ بعوضة، فكيفَ تكونُ ثقيلةً عند المملوك؟ فالصبرَ الصبر، فإنَّ مع العسر يسرا، إنَّ مع العسر يسرا، ويكفينا أنَّ الله يرى، وكلّ شيءٍ عنده بمقدار.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم