تأملات
هذا السؤالُ يجبُ أنْ يراودَ كلَّ مسلم، وكلّ مسلمٍ لم يسألْ نفسَهُ هذا السؤالَ، لا أعرف حقيقةً كيف يمكنُ أن ينام أو يمارس حياته بشكلٍ طبيعي أو حتّى أن يتنفس وهو مطمئن؟
لأنّ الذي لا يحب النبي أكثر من نفسه (غير مؤمن) كما ورد في الحديث الشريف، “لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين” وفي تتمة الحديث يقول سيدنا عمر رضي الله عنه: “لأنتَ أحبُّ إليَّ من كلِّ شيء إلا من نفسي” فيقول له النبي ﷺ “لا والذي نفسي بيده، حتى أكونَ أحبَّ إليكَ من نفسك”.
يعني تنتفي عنك صفة الإيمان إذا لم يكن النبي ﷺ حبيبكَ الأوّلَ الأعظمَ فيكون أحبّ إليكَ منك!
ولا يمكن أن يحدث هذا الحبُّ الراقي العظيم لجنابه الشريف ﷺ، دون أن تعرفَه، ولا يمكنُ أن تعرفَهُ دونَ أنْ تقرأَ سيرتَهُ، وأنْ تشاهدَ رحمتَهُ الّتي تتغشّى سلوكَهُ، وكلماتِه، وعبراتِه، ونظراتِه، في جميعِ تفاصيلِ حياتِهِ الشريفةِ معَ البشرِ، والحجرِ، والشجرِ، والطريقِ، والعبادةِ، والتأمّلِ، والمعاملةِ، وكلِّ شيء، فهو رحمةٌ منزلةٌ للعالمين، أي لكلِّ شيءٍ في الوجودِ على الإطلاق، ما ندرك وما لا ندرك، يدعوكَ هذا الحبُّ إلى أمورٍ كثيرةٍ، أهمّها أنْ تصلّيَ عليه ﷺ، وأن تشْعُرَ أنَّ الملاكَ يُسّلم على سيّدنا رسول الله ﷺ وهو يقولُ له: “فلان ابن فلان يسلّم عليك يا سيّدي يا رسول الله” فتشعر بقلبكَ يقفزُ من الفرح، لأنّ اسمكَ يُذْكَرُ عندَ سيد السادات، ثم تبدأُ سيرته تسري معك في حياتك، كيف يحدث هذا؟
يعني يصبحُ الجمالُ المحمديُّ ﷺ يسري في كلياتك، فتلمسهُ في تفاصيلكَ اليوميّةِ، وتبدأُ تستشعرُ أنَّ بركته تسري معك، سمعتُ مرّةً عبارةً جميلةً متداولةً كانَ يقولُهَا أجدادُنَا عندما يهمّون بالقيام بأي عمل (يدُ النبي قبلَ يدي)، للحظةٍ شعرتُ أنَّ قلبي ينفطرُ عندَ سماعٍ هذهٍ العبارةٍ شوقًا واستشعارًا عظيمًا لمدى القرب، أيْ حين تعدُّ الطعام أو تتناولُه أو تفعلُ أيَّ فعل، تشعرُ أنَّ بركَتَهُ تسري معك، وكأنَّ يده الشريفة العظيمة ترافق يدك ..
لحظةُ المرافقةِ هذه من أينَ نبعت؟ أو كيف ملأتْ الروح والقلب؟ الحقيقةُ أنّ مصدرها الرئيسيَّ هو الأمرُ الإلهيّ في التشهّد في كل صلاة، لأنّنا نسلّم عليه مباشرةً في حضرة الله عزّ وجلّ، فتشعر أنّ النبيّ ﷺ جالسٌ معك، تسلّم عليه، فيبتسم لك، ويردّ عليك السلام، هذه اللحظةُ تبني جسراً روحيًّا عظيمًا بينكما، إذا كنتَ فعلاً صاحبَ قلبٍ رقيقٍ عطوفٍ شفافٍ قادرٍ على استقبالِ هذهِ الأنوارِ المحمديّةِ عبرَه.
أن تتتبّعَ حبّ النبيّ للأشياء، لألوان الثياب، الأطباق المفضّلة، الكلمات التي يرددها كثيرًا، طريقة جلوسه، قيامه، مشيه، ابتسامته، ما يحبّ من العطور، وما يكره من الروائح، وهكذا على صعيدِ كلِّ شيء، وأنْ تفكّر قبل أن تقومَ بأيّ ردّة فعل، هل ردّة الفعل هذه تُعجب النبي ﷺ ؟ في أحيانٍ كثيرة أغضب جدًّا وأودّ لو أردّ على بعض الأشخاص ردودًا في منتهى التوبيخ، لكنّني في ثانيةٍ حينَ يلمعُ هذا السؤالُ بذهني، هل سيعجب ردّي حضرة النبي ﷺ؟ وحين أستشعر انزعاجه، أتراجع، وأتركهم لله عز وجل ويستقر في قلبي يقينًا “إنَّ الله يدافع عن الذين آمنوا”.
وأفكّر كثيرًا في يوم الإثنين أو الخميس فهي أيام تعرض فيها أعمالي على النبي صلى الله عليه وسلم، يعني أتخيل أن الملائكة تقدم صحيفتي لجنابه الشريف فيبدأ يقرأ ماذا فعلت، فأفكر بأنني يجب أن أجتهد بأن يجد شيئًا يفرح بي به، مقالاً جميلاً عنه، صدقة، تفريج كرب، رد إساءة بإحسان، وأحرص أن أقول له أحبك دائمًا، لأنَّ الملائكة ستسجل هذا وسيقرؤها أيضًا فأتخيله يقرؤها أيضًا ويبتسم، وأكاد أتيقن أنّه يردّ عليّ “وأنا أحبكِ أيضا”.
إنّ بعثة الرسول محمد ﷺ كخاتمٍ للمرسلين، فيها خصوصيةٌ هائلة، يعني أنَّ الله عزَّ وجل قدْ جمعَ في روحهِ الشريفةِ كلَّ صفةٍ جميلةٍ، أو نورٍ ممدود، أو تعليمٍ إلهيّ، أرسلهُ عبرَ نبيّ سابق، فإنّ روحَهُ الشريفةَ اجتماعُ كلِّ الرسالات السماوية، وكلّ أنوارِ الأنبياء والرسل الذين سبقوه، وكلّ التوجيهاتِ الإلهية، والمعاني الظاهريةِ والباطنية، وكلِّ الأمداد الرحمانية، ليكون الخاتمَ الجامعَ الذي أورد اللهُ على لسانهِ، وسلوكهِ، ونبضِ قلبه، ونظرةِ عينه، كلَّ رحمةٍ، وجمالٍ، ولطفٍ، ورأفةٍ، وفضلٍ، وإحسان، سبحان الله العظيم ربّ المجتبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
حين يصبحُ حبُّ النبيِّ ﷺ منهجَ حياة، تصبحُ المصاعبُ أقلَّ قسوة، والأبواب المسدودة كأنها موانعُ رحمة، فيحضرُ النبي ﷺ في كلِّ ابتلاء تمرّ فيه، فيخففُ عنك، ليس هنالكَ ابتلاء يمر به المسلم في حياته على الإطلاق، إلّا ومرّ به الرسول الله ﷺ (اليتم، الاستهزاء به، اتهامه بالجنون، بممارسة السحر، إيذائه جسديًّا، ورميه بالحجارة، والسخرية منه، اتهامه بعرضه في حادثة الإفك، طلاق بناته، موت زوجته خديجة، موت جميع أولاده وبناته حبيبي ﷺ في حياته وقد دفنهم بيديه الشريفتين إلا سيدتنا فاطمة عليه السلام فقد لحقته إلى الرفيق الأعلى بعد أسابيع قليلة، إصابته بالسحر، محاولة قتله، هجائه بأبشع القصائد، حصاره، وتجويعه، إجباره على الهجرة، وتركِ مكة وهي أحبّ البلاد إليه، وبهذا فقدَ البيتَ والأهلَ والمال، زُلْزِلَتْ الأرضُ تحت قدميه زلزالاً هو وأصحابه من هولِ ما يجد في المعركة، حتى سأل النبي الأعظم ﷺ متى نصر الله، اشتداد الحمّى عليه حبيبي ﷺ حتى فاضت روحه الشريفة).
ونحن في الحياة الدنيا، سبحان الله، ما من ابتلاءٍ نتعرض له، إلّا وقد سبق أن تعرض له رسول الله ﷺ، وإذا استعرضنا حياته، سنجده يواسينا بطريقة ما، وسنجد أنَّ ابتلاءاته ﷺ ، أشدُّ من ابتلاءاتنا بكثير، وحين أتأملُ كيف اجتمعتْ كلُّ هذه الابتلاءاتُ القاسيةِ بأرحمِ إنسانٍ وطئتْ قدمُهُ كوكبَ الأرض، لم يمشِ على الأرض قبلَ سيدنا محمد ﷺ أرحم منه ولا بعده، فهو رحمةٌ للعالمين، نبيٌّ قلبه يفيض بالرحمة والحب والحنان والرقة، يتعرض لكل تلك التجارب القاسية، ورغم ذلك، حين يخيّرهُ الله، بين أن يكون نبيًّا ملكا أو نبيًّا عبداً، فيختار أن يكون نبيّاً عبدًا، وحينَ يخيّرهُ بينَ أنْ يستجيبَ له دعاءً مخصوصًا في الدنيا، فيطلب من الله أن يدّخرَ دعوته للآخرة من أجل أمّته، لتكون لنا نحن، من أجلي وأجلك ومن أجل كلّ مسلم اتّبع رسالته ﷺ.
فكيف تعرفهُ، ثمَّ لا يفيض قلبك حبّاً وشوقًا له؟، كيفَ حين تقرأ سيرته، وهو يقول لمعاذ بن جبل، يا معاذ والله إني لأحبك، لا تتوقف فجأة عن القراءةِ، وتقول وأنا يا رسول الله، أريدُ أن تحبّني مثل معاذ، أو حين تقرأ هو يقول لسيدنا عمار بن ياسر واصفاً حبه له “عمّار جلدةٌ بين عيني وأنفي”، فتشعر بالغيرة وتقول في قلبك له: “وأنا يا رسول الله؟”
حبك الصادق لسيدنا محمد ﷺ سيكون منهاج حياة، وسيصبح غارًا تعبديًّا، وحين تدعو الله فكأنكَ تدعوهُ وقلبك ينبض داخل قلب رسول الله ﷺ، فكأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، يشارككَ الدعاء، يشارككَ الحبّ، يشاركك التثبيت، يشاركك الحلُم والأمل، فتشعر أنّه سندك في الدنيا كما أنّه شفيعك يوم القيامة، تلك الشفاعة التي ستثقّل ميزانك وتمحو ذنوبك وتدخل الجنّة بها.
فالسلام عليك يا سيدي وشفيعي وحبيبي يا رسول الله في روضتك الشريفة وفي برزخك وفي فردوس الله يا خير خلق الله، وأسأل الله أن يجزيك عنَّا خير الجزاء بما هو أهله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.