سياسة

من شماعة داعش إلى تبرير التعذيب.. الرقة تدفع الثمن

سبتمبر 12, 2025

من شماعة داعش إلى تبرير التعذيب.. الرقة تدفع الثمن

لم يكد يمضي أسبوع على وفاة الشاب الطيب أحمد الساجر، تحت التعذيب، حتى بدأت التسريبات تتحدث عن نية قوات سوريا الديمقراطية (قسد) إصدار بيان رسمي يبرر الحادثة عبر الادعاء بانتمائه إلى خلية مرتبطة بتنظيم (داعش). واعتبر ناشطون محليون في الرقة، أن هذه الخطوة محاولة للالتفاف على الغضب الشعبي المتصاعد وطمس معالم جريمة مكتملة الأركان.

 

اعتقال بلا سبب وموت غامض

في تصريح خاص لمنصة “سطور”، أفادت ابنة عم الساجر، من سكان الرقة، والتي رفضت ذكر اسمها لدواع أمنية، أن الشاب الطيب أحمد الساجر، البالغ من العمر 22 عاماً، اعتقل يوم الأحد 7 سبتمبر/ أيلول الجاري، أثناء توجهه من قريته حويجة شنان شرق الرقة إلى المدينة. وأضافت قائلة:

 

“أحمد لم يكن ناشطاً مدنياً، ولا سياسياً أو عسكرياً، بل شاب بسيط يعمل فلاحاً في الأراضي الزراعية، غير متزوج، والمعيل الوحيد لوالدته المريضة وشقيقتيه بعد وفاة والده”.

 

لكن بعد يومين فقط، حين قصد أقاربه مقرات “قسد” الأمنية للسؤال عن مكانه، أُبلغوا بأنه توفي إثر “جلطة قلبية”. غير أن الصور المسربة لجثمانه أظهرت آثار تعذيب واضحة، ما جعل رواية “الجلطة” تبدو غير مقنعة، وأقرب إلى غطاء أمني لتبرير الوفاة.

وتؤكد العائلة أن رواية أخرى قدمت لهم لاحقاً، تزعم أن الساجر كان “يجهز نفسه لتنفيذ عملية انتحارية”، وهو ما يرفضه ذوو الضحية بشكل قاطع. وقد تم تسليم جثة الساجر إلى أهله، وتم دفنه في قريته تحت حراسة أمنية مشددة، ولم تغادر الجهات الأمنية المقبرة إلا بعد التأكد من دفنه.

 

 

سياسة التبرير عبر “شماعة داعش”

مصدر خاص مقرب من “قسد” أكد لمنصة “سطور”، أن القوات تستعد لتبني رواية رسمية تربط وفاة الشاب الطيب أحمد الساجر بخلية داعشية. وأوضح المصدر أن الأجهزة الأمنية التابعة لـ “قسد” أعدت اعترافات ومقاطع فيديو يُزعم أنها تثبت تورط الساجر بارتباطه بخلية تابعة لتنظيم “داعش” الإرهابي، وسيتم عرضها خلال الأيام القليلة المقبلة.

 

وأشار المصدر إلى أن هذه ليست المرة الأولى التي تُستخدم فيها تهمة “الانتماء إلى داعش” غطاء لتبرير الاعتقالات أو حالات الوفاة المتكررة تحت التعذيب.

 

ويصف حقوقيون محليون هذه السياسة بأنها “التبرير الجاهز”، مؤكدين أن كل من يلقى حتفه في السجون أو يُعتقل تعسفياً يُوصم فوراً بالانتماء إلى “داعش”، ما يقلل من فرص مساءلة المسؤولين ويربك الرأي العام.

 

وشدد هؤلاء الحقوقيون على أنه على اعتبار صحة الرواية المزعومة فيما يخص تورط الساجر، فإن ذلك لا يبرر بأي شكل من الأشكال تعذيبه حتى الموت في معتقلات “قسد”، مؤكدين أن ما حصل يعد خرقاً بواحاً للمفاهيم الإنسانية والمعايير الدولية لحقوق الإنسان.

 

حوادث متكررة.. والطفل العوني مثالاً

حادثة الساجر ليست استثناء في سجل الانتهاكات والممارسات التي تنفذها قوات سوريا الديمقراطية “قسد” في الرقة بشكل خاص، والجزيرة السورية بشكل عام. ففي سابقة أثارت صدمة واسعة في الوسط المحلي، قتل الطفل علي عباس العوني البالغ من العمر 14 عاماً،  في بداية شهر تموز/ يوليو، على يد أحد عناصر “قسد” قرب حاجز معمل السكر في الرقة، حيث أجبر ذوو الطفل على دفنه ليلاً تحت حراسة أمنية مشددة، ما أثار حالة من الغضب الشعبي في المدينة.

 

وبدوره، أدان فرع نقابة المحامين في الرقة هذه الجريمة عبر بيان نشره على صفحته الرسمية في فيسبوك، واعتبرها “إعداماً ميدانياً لقاصر أعزل”، مؤكداً أن الحادثة ليست فردية، بل تأتي ضمن سلسلة من الانتهاكات المنهجية التي ترتكبها “قسد” بحق السكان في المنطقة.

 

اعتقال الناشط عبد الله الدربوك

وفي سياق مشابه، اعتقلت قوات “قسد” في نهاية آب/ أغسطس الماضي الناشط المدني عبد الله عمر الدربوك، وهو أب لثلاثة أطفال وناشط معروف سبق أن اعتُقل لدى نظام الأسد وتنظيم داعش على حد سواء. يعمل الدربوك قائداً لفريق في منظمة الهجرة الدولية ضمن برنامج “متابعة النزوح”، وبرغم الطابع المدني والإنساني لعمله، لم ينقذه ذلك من الاعتقال، حيث حُجز بذريعة “عدم امتلاكه إذن عمل رسمي”.

 

ويشير ناشطون محليون إلى أن اعتقاله يندرج ضمن سياق أوسع يستهدف الأصوات المستقلة ومنظمات المجتمع المدني. ونشر ناشطون مدنيون وحقوقيون سوريون نداءات استنكار على مواقع التواصل الاجتماعي، مطالبين بإطلاق سراحه فوراً وحماية الناشطين المدنيين من الاستهداف والاعتقال التعسفي.

 

وقد سبق الدربوك في هذا المسار الناشط المدني أحمد الحمزة السطم، الذي أفرجت عنه قوات “قسد” مؤخراً بعد مداهمة ليلية واعتقاله من منزله في حي المشلب بمدينة الرقة بتاريخ 20 أيار/ مايو 2025. ويعد كل من الدربوك والسطم من الوجوه البارزة في مجال العمل المدني والإنساني ومنظمات المجتمع المحلي، ما يجعل استهدافهما مؤشراً على تضييق متزايد على الحيز المدني في الرقة.

 

غضب شعبي وصمت رسمي

فجر مقتل الشاب الطيب أحمد الساجر موجة غضب في الرقة، خاصة بعد تداول صور جثمانه على وسائل التواصل الاجتماعي، والتي بدت عليها آثار التعذيب بوضوح. وطالب ناشطون الحكومة الجديدة في دمشق بعدم الصمت، واتخاذ موقف تجاه ما يحصل في الرقة من قتل واعتقالات تعسفية على يد قوات “قسد”.

 

المحامي أسيد الموسى، عضو نقابة المحامين بالرقة، قال لـ “سطور” إن المشكلة لا تكمن في حادثة فردية، بل في منظومة متكاملة من الانتهاكات الممنهجة. يتم القبض على الأفراد واحتجازهم دون مذكرة قضائية أو سند قانوني صحيح، كما يُحرم المعتقلون من حقوقهم الأساسية في محاكمة عادلة، بما في ذلك حقهم في الاتصال بمحام وعرضهم على قاض في الوقت المناسب ومعرفة التهم الموجهة إليهم. وغالباً ما تستخدم اتهامات جاهزة وغير محددة، مثل “الانتساب لخلية داعشية” أو “الإضرار بالأمن القومي”، لتبرير الاعتقالات والاحتجازات التعسفية، بدلاً من وجود أدلة قوية على ارتكاب جريمة معينة.

 

وأشار الموسى إلى أن هذه الممارسات تشكل خرقاً للقوانين المحلية والدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، وهي جزء من نمط ممنهج من الانتهاكات وليست مجرد حوادث منعزلة.

 

المفارقة، كما يلاحظ مراقبون، أن الحكومة السورية لم تُصدر أي بيان تعليقاً على مقتل الساجر، رغم أنه مواطن سوري. ويؤكد الناشط المدني (ع. هـ) من داخل مدينة الرقة أن تجاهل دمشق مقصود، فالحكومة لا تريد تحمّل أي مسؤولية تجاه سكان المنطقة وتعتبرها خارجة عن سيطرتها، ما يترك الأهالي بين مطرقة الانتهاكات وسندان الغياب الرسمي.

 

ويشير إلى أن الحكومة غير مكترثة بما يحصل في الرقة، تاركة المدنيين في مواجهة مباشرة مع قوات “قسد”، التي بطبيعة الحال غير مكترثة هي الأخرى، فيما تبقى مصالحها وحساباتها الجديدة خارج أي اعتبار للمعاناة الإنسانية للمدنيين.

 

ويضيف أن الحكومة مكتفية بحكم دمشق، معتبرة أن دمشق هي سوريا كلها، وهذا يعزز الشعور بأن حكومة دمشق لا تبالي في منطقة الجزيرة السورية إلا بالموارد الاقتصادية مثل آبار النفط وصوامع الحبوب وقطنها، متجاهلة معاناة السكان والحياة المدنية في المنطقة.

 

من إرهاب داعش الى ديمقراطية قسد

الرقة، التي أنهكتها سنوات الحرب مع داعش، ما تزال مثقلة بجراح الماضي. سكانها، الذين حلموا باستقرار بعد زوال التنظيم، يجدون أنفسهم اليوم أمام واقع جديد من الاعتقالات والاتهامات المقولبة، وسط شعور بالخذلان وانعدام الحماية.

ويرى محللون وناشطون محليون أن تكرار الانتهاكات من جهات متعددة – النظام سابقاً، داعش لاحقاً، والآن “قسد” – يجعل الثقة بأي سلطة أمراً بالغ الصعوبة.

 

المدنيون يتساءلون: من سيحميهم من الانتهاكات اليومية، ومن سيحاسب المسؤولين؟

مقتل الطيب أحمد الساجر لم يكن حادثة منفردة، بل حلقة جديدة في سلسلة طويلة من الانتهاكات التي شهدتها الرقة؛ من إعدام طفل أعزل إلى اعتقال ناشطين مدنيين. الممارسات اليومية تنتهك أبسط حقوق الإنسان، وتترك المدنيين في مواجهة مباشرة مع واقع أمني قاس ومستقبل ضبابي.

 

وبينما تواصل “قسد” تبني رواياتها الرسمية لتبرير الانتهاكات، وتلتزم دمشق صمتها المعتاد، يبرز الواقع الجديد للرقة: شعارات الديمقراطية التي ترفعها “قسد” لا تعكس تجربة المدنيين اليومية، الذين يعيشون في ظل خوف واعتقالات وتعذيب، دون أي حماية أو مساءلة.

 

الرقة، من إرهاب داعش في الماضي، إلى “ديمقراطية” قسد في الحاضر، ما تزال مدينة تئن تحت وطأة الانتهاكات المتكررة، حيث المدنيون وحدهم يتحملون ثمن الصمت الرسمي والانتهاكات اليومية.

شارك

مقالات ذات صلة