مدونات
لا يوجد في الأعراف الدولية أو في قاموس العدالة الانتقالية مصطلح “المسامحة”، بل إن التجارب الدولية المختلفة وجدت مسارات متعددة لحل النزاعات والانتقال من حالة الحرب إلى السلم. هذه المسارات تقوم أساسًا على مسارين رئيسيين: مسار المساءلة والمحاسبة، ومسار العدالة التصالحية، ولكل منهما مزايا وعيوب، ولا يمكن لأي مسار أن يلبي تطلعات جميع الأطراف.
وفق الدساتير الدولية والعهود المدنية والحقوق الإنسانية، فإن التقاعس عن محاسبة المجرمين يعد انتهاكًا صريحًا لحقوق الضحايا. لذلك، يقوم مسار العدالة التصالحية على فكرة إصلاح الضرر وجبر المتضررين من خلال إشراكهم مباشرة في العملية، عبر تهيئة الظروف الملائمة للاستماع إلى معاناتهم، وضمان القصاص العادل لهم، مع اعتراف الجناة بجرائمهم وطلبهم الصفح من الضحايا. بعد هذه الخطوة تأتي مرحلة الإصلاح عبر التعويض ورد الحقوق أو إنزال أحكام العدالة بحق الجناة. غير أن بناء دولة القانون والمواطنة لا يتوقف عند هذه النقطة، بل الأهم هو معالجة جذور الجريمة ومنع تكرارها.
فالقصاص العادل قد يؤدي إلى إقصاء الجناة عن المشاركة في بناء سوريا الجديدة، أو دمجهم بعد إخضاعهم لإعادة تأهيل شاملة. المثال الأبرز على هذا المسار هو رواندا، التي عانت من واحدة من أفظع المجازر العرقية في التاريخ الحديث، حيث قُتل أكثر من 800 ألف شخص، وامتلأت السجون بأكثر من 200 ألف سجين من مختلف فئات المجتمع. وأمام هذا العبء، أصدرت الحكومة قانونًا يقسم المتهمين إلى فئات، فتم العفو عن البعض مقابل تقديم شهادات تدين المتورطين الأشد خطورة، لكن السجون بقيت مكتظة.
من هنا جاء الابتكار بإنشاء محاكم “جاكاكا”، وهي جلسات علنية يعترف فيها الجاني بجرمه ويطلب الصفح من أهالي الضحايا، مع شرط قبولهم بالعفو عنه مقابل تقديم تعويضات. بالتوازي، عملت الحكومة على خطوات أخرى مثل إخراج رفات الضحايا ودفنها بشكل لائق وإعلان يوم حداد وطني، وإطلاق عملية سياسية واقتصادية شاملة، وبناء هوية وطنية جامعة بعد حظر الانتماءات العرقية الضيقة داخل بنية الدولة.
لكن هذا المسار لم يخلُ من العيوب، فقد تعرض لانتقادات داخلية وخارجية اعتبرته عدالة المنتصر فقط، حيث اقتصر القصاص على طرف واحد وتجاهل أطرافًا أخرى محمية أو متغاضى عنها. كما اصطدم بتحديات أيديولوجية وعرقية عند محاولة توحيد الهوية الوطنية، إضافة إلى الفقر والجروح النفسية والإعاقات الجسدية التي شكلت عقبة أمام التعويضات وإعادة الممتلكات.
المساءلة القضائية تقوم على أطر قانونية واضحة بين المواطن والدولة، وتهدف إلى:
ضمان عدم إفلات كبار المسؤولين من العقاب.
تحميل الدولة مسؤولية إثبات الحقائق ومحاسبة أطرافها إذا ثبت تورطهم في الانتهاكات.
الملاحقة الجنائية لجميع الجناة وضمان التعويض المناسب للضحايا.
دراسة كل الظروف التي أدت للانتهاكات لتجنب تكرارها.
إلا أن هذا المسار محفوف بمخاطر كبيرة، من أبرزها:
إمكانية استخدامه من قبل القوى الجديدة في الحكم كأداة للانتقام السياسي أو لتغطية انتهاكات جديدة.
خطر تسييس العملية وحشد الشارع لخدمة مصالح آنية.
بطء الإجراءات القضائية، خصوصًا في قضايا المجازر الجماعية، ما يعقّد الوصول إلى أحكام ناجزة.
صعوبة جمع الأدلة الكافية والإثباتات، وفشل العملية أحيانًا في تلبية توقعات الضحايا.
احتمالية انتشار عدالة انتقائية انتقامية تؤدي إلى فوضى وعمليات ثأر فردية.
وفاة المتهمين أو الشهود أو الضحايا قبل صدور الأحكام، كما حدث في قضايا شهيرة مثل قضية رفيق الحريري أو محاكمة ميلوسوفيتش في يوغوسلافيا.
رسم طريق العدالة قد يكون أكثر صعوبة وخطورة من العدالة ذاتها، خصوصًا في ظل الوضع السوري، حيث يواجه أي مسار للعدالة الانتقالية عقبات كبرى:
الانهيار الكامل لمؤسسات الأمن والجيش.
الانقسامات المجتمعية المتفاقمة.
انهيار العلاقات الاجتماعية والاقتصادية.
تداخل السيطرة الجغرافية بين قوى مختلفة.
وبعد سقوط النظام، برزت تحديات إضافية:
عمليات انتقام فردية تحت غطاء “العدالة الانتقامية”.
انتهاكات ضد مدنيين أو عناصر أمن من فلول النظام أو مجموعات مسلحة أخرى.
ضبابية في تنظيم الوظائف العامة والدور المؤسساتي.
مصالحة غامضة وغير رسمية مع رموز مالية واقتصادية مرتبطة بالنظام السابق.
إطلاق مسار واضح للعدالة الانتقالية، مهما كان ناقصًا، يوفر للحكومة شرعية وثقة مجتمعية، كما يفتح الباب أمام عملية تعليمية موازية تكشف الثغرات القانونية والمؤسساتية بهدف ردمها. العدالة هنا لا تعني فقط القصاص، بل تشمل الإصلاح المؤسسي، التعليم المستمر، والتقويم الدائم للحكم المحلي.
وأحيانًا، لتحقيق السلام الأهلي، قد يتطلب الأمر تقديم حصانات أو ضمانات لبعض الجناة أو الشهود مقابل إفادات حاسمة تساعد على التمييز بين الانتهاكات الفردية والانتهاكات الجماعية التي سمحت بها مؤسسات منهارة.
وبذلك، يدرك السوريون أن العدالة ليست وصفة جاهزة، بل مجموعة أدوات تحتاج إلى عقلية جماعية واعية. ومع هذا الإدراك، يجب أن يكون واضحًا أن العدالة الانتقالية لن تعني معاقبة الجميع، ولن ترضي جميع الأطراف.
اليوم تبدو الأولويات ملحّة:
تحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي كبوابة لإعادة الإعمار.
ضمان وحدة البلاد ومنع مشاريع التقسيم.
إنشاء مسار خاص للعدالة ينصف الضحايا ويمنع تكرار الجرائم.
إعادة بناء المؤسسات على أسس قوية تعزز الثقة بين المجتمع والدولة.
لكن الواقع يفرض معادلة صعبة: المساءلة الكاملة قد تفجر حربًا أهلية أو تقود إلى تقسيم، في حين أن غياب المساءلة كليًا قد يفتح باب الانتقام والثأر الأهلي. لذلك يقترح كثير من الحقوقيين إعادة تصنيف المجرمين في سوريا ضمن هرم شرائحي:
المستوى الأول: كبار الناهبين والمتورطين في الجرائم الكبرى؛ هؤلاء لا تسقط عنهم الحقوق ويجب ملاحقتهم دوليًا، مع مصادرة ممتلكاتهم وتأريخ جرائمهم.
المستوى الثاني: الجناة متوسطو الخطورة الذين يصعب إثبات جرائمهم إلا بالشهادات؛ يمكن منحهم تخفيفًا في العقوبة مقابل معلومات تعزز إعادة بناء الدولة.
المستوى الثالث: صغار المجرمين والمرتزقة؛ يمكن إدماجهم ضمن مسار العدالة التصالحية بشرط الإفصاح وإعادة التأهيل مع منعهم من تولي مناصب عامة.
المستوى الرابع: الشبيحة الصغار والمحرضون والإعلاميون غير المتورطين مباشرة في الدماء؛ يمكن تأهيلهم ودمجهم في أطر خدمية تعيد توجيه طاقاتهم نحو الإصلاح.
العدالة الانتقالية في سوريا لن تكون سهلة ولن ترضي جميع الأطراف، لكنها تظل أداة ضرورية لتجنيب البلاد الانزلاق إلى دوامة جديدة من الدماء. إن نجاحها مشروط بوعي مجتمعي يقوده العقلاء والنخب، وبقدرتهم على رسم مسار متوازن يحقق جبر الضرر، ويمنع إفلات المجرمين من العقاب، ويحافظ في الوقت نفسه على السلم الأهلي والهوية الوطنية الجامعة.