فنون
“Flipped” أو “انقلاب” هو فيلمٌ جميل ورائع ودافئ، من إنتاج عام 2010، ويعيدنا إلى زمن البراءة والحبّ الأول، وقد أخرجه “روب راينر”، الذي تولّى كتابة النص السينمائيّ مع زميله “أندرو شينمان”، باقتباسه من رواية تحمل الاسم نفسه للكاتبة “ويندلين فان درانن”، التي أصدرتها في عام 2001.
تدور أحداث الفيلم حول “جولي بيكر” و”برايس لوسكي” اللذين يعيشان في الحي نفسه منذ الصف الثاني، وتقع “جولي” في حبّ “برايس” من النظرة الأولى، بينما هو يراها غريبة الأطوار ويهرب من اندفاعها الطفوليّ.
على امتداد 6 أعوام تتقلّب وجهات النظر ويُعاد ترتيب المشاعر، وتنصرف “جولي” تدريجيًّا عن فتى أحلامها حين تكتشف هشاشته الأخلاقيّة، بينما يكتشف “برايس” متأخّرًا أنّ ما كان يزعجه فيها هو تحديدًا ما يجعله ينجذب إليها، وقد أبدع “كالان مكوليف” بأداء شخصيّة “برايس”، وكذلك “مادلين كارول” بشخصيّة “جولي”، ولا أنسى بقيّة الممثّلين الذين قدّموا أداءً متميّزًا.
أحببت فكرة أن يقدّم الفيلم طريقة عرض مغايرة تمامًا لما اعتدناه في معظم الأفلام السينمائيّة، فبدل أن نحصل على سردٍ خطيٍّ واحد يفرض علينا زاوية نظر محدّدة، نجد أنفسنا أمام تجربةٍ ثريّة تسمح لنا بالاقتراب من الحدث نفسه من منظورين مختلفتين، لنقارن بين الانطباعات لا بين الوقائع فقط.
عندما يتكرّر المشهد، لا نشعر بالملل بل بالفضول، ونكون كمشاهدين طرفًا في التجربة، ونقارن بين الروايتين، ونحلّل الفوارق الصغيرة في نبرة الكلام ولغة الجسد، ولا يختلف ذلك عن تجربتنا اليوميّة حين نسمع القصّة ذاتها من شخصين مختلفين ونكتشف أنّ الحقيقة تقع بينهما.
من خلال ذلك تُتاح لنا مشاهدة الحدث نفسه مرّتين: مرّة من منظور “جولي”، ومرّة أخرى من منظور “برايس”، ولكن بتأويلين متباينين يعكسان الفوارق النفسيّة والعاطفيّة بين الشخصيتين، ونحن هنا لا نكتفي بمتابعة قصة حبّ بين مُراهِقَيْن، بل نخوض رحلةً معرفيّة عن طبيعة الإدراك الإنسانيّ نفسه: كيف يرى كلٌّ منّا الآخر؟ وكيف تؤثّر الخلفيّات العائليّة والتجارب الشخصيّة على أحكامنا؟
إنّ جمال هذه الطريقة المبتكرة في السرد يكمن في أنّها تكشف لنا أنّ الحقيقة ليست مطلقة ولا جامدة، بل متحرّكة ومتغيّرة بتغيّر المنظور، فإنّنا حين نرى الشيء من منظور “برايس” يبدو هشًّا ومتردّدًا، بينما يبدو بالعين نفسها عبر “جولي” صلبًا وواثقًا.
هنا لا يكون الغرض إثارة الانحياز أو دفع المُشاهِد لتفضيل طرفٍ على آخر، بل إشباع فضول إنسانيّ عميق: أن نعرف ما يدور في داخل الآخر، وأن نختبر روعة الاختلاف كجزءٍ لا يتجزأ من التجربة البشريّة.
من المؤسف أنّ الفيلم على الرغم ممّا يحمله من صدقٍ ودفء إنسانيّ لم يحظَ بالتقدير الذي يستحقه، وميزانية إنتاجه بلغت نحو 14 مليون دولار، ولكن إيراداته في شباك التذاكر في أمريكا وبقيّة دول العالم لم تتجاوز 7 ملايين دولار، ليسجَّل كإخفاقٍ تجاريّ واضح، كما أنّ مراجعات النقاد الفاترة قلّلت من قيمته، غير أنّ الجمهور بدأ يلتفت إليه لاحقًا عبر المشاهدة المنزليّة، ووجد مكانه الحقيقيّ في قلوبهم.


