آراء
بعد مرور قرابة العامين على حرب غزّة ومعركة “طوفان الأقصى”، ما زال السؤال قائمًا في أذهان الكثيرين داخل العالم وخارجه: لماذا لم يقرّر أهل غزّة الرحيل عن أرضهم، كما فعل ملايين اللاجئين في أماكن أخرى من العالم حين ضاقت بهم السبل؟ ما الذي يجعل سكان قطاع صغير محاصر، يُقصف ليلًا ونهارًا، ويعيش على حافة المجاعة، يتمسّكون بأرضهم رغم كلِّ شيء؟ هل يستحقُّ الأمر حقًا كل هذه التضحيات؟
هذه ليست أسئلة نظريّة تُطرح في مقالاتٍ أو حواراتٍ فكريّة، بل هي أسئلة تنبض بها حياة الناس داخل غزّة. يمكن أن نسمعها من فم طفلٍ صغير، جائع ومتعب، ينظر إلى محيطه من الركام والدخان ويقول بعفويّة الطفولة: “لماذا لا نرحل؟ لماذا نتحمّل هذا الجوع وهذا الألم؟ أليس في مكانٍ آخر حياة أسهل وأرحم؟”
وهناك، في زاوية مظلمة من بيت مهدّم أو خيمةٍ مهترئة، يجيبه رجل مسن، قد أكل الجوع جسده حتى بدت عظامه، وفقد شعره ونحل جسده، لكنّه ما زال يحتفظ بابتسامةٍ يملؤها اليقين:
“يا بنيَّ، هذه الأرض ليست مجرّد مكانٍ نعيش فيه، إنّها نحن. إن غادرناها فقدنا أنفسنا، وإن بعناها ضاعت كرامتنا، وإن نسيناها انقطعنا عن تاريخنا وعن قبلتنا الأولى. قد يظنّ العالم أنّنا نتمسّك بترابٍ لا يسمن ولا يغني من جوع، لكنّنا في الحقيقة نتمسّك بمعنى أعظم: نتمسّك بالحقِّ.”
يصمت الشيخ قليلًا وكأنّه يستجمع ما تبقى من أنفاسه، ثم يضيف: “لو رحلنا فمن يبقى للأقصى؟ من يحفظ حكاية الأنبياء ومهد الرسالات؟ من يقول للتاريخ إن في زمن الهزائم، بقيت بقعة اسمها غزّة لم تنحنِ؟”
في الخارج، يقيس العالم كلّ شيءٍ بلغة المصالح والراحة. عندهم، الخسارة في الأرواح مأساة بلا معنى، والتضحية بالحياة ضربٌ من الجنون. أما في غزّة، فالموازين مختلفة. الموت ليس نهاية، بل امتداد للحياة بطريقةٍ أشرف، والتضحية ليست عبثًا، بل الطريق الوحيد لصناعة معنى يظلُّ حاضرًا بعد أن يذوب الجسد.
غزّة لا تفكّر كما يفكّر العالم، لأنهّا ببساطةٍ لا تعيش لنفسها. تعيش للأمة كلّها، للأقصى الذي يظلّ حاضرًا في وجدان المسلمين، للأجيال القادمة التي ينبغي أن ترث قصة لا تُخجلها. لذلك يجوع الغزّيون لتبقى الكرامة طازجة في قلوب الأمة، ويصبرون على الألم لتبقى البوصلة متجهة نحو فلسطين، ويضحون بأغلى ما يملكون ليقولوا للأمة: هذه الأرض لا تباع.
لهذا كلّه، حين نسأل: “هل يستحقُّ الأمر؟” يكون الجواب عند الغزّيين حاضرًا، لا بالخطابات، بل بالدموع والدماء والجوع والصبر. نعم، يستحق، لأنّهم يعرفون أنّ الأوطان التي تُفقد تُستعاد بعد قرونٍ بصعوبة، وأنّ الأقصى إذا تُرك بلا حارس سيُبتلع، وأنّ الأمة التي لا تجد من يذكّرها بواجبها ستذوب في تيار النسيان.
غزّة اليوم لم تعد مجرّد قطاع محاصر على خارطة صغيرة، بل تحوّلت إلى مدرسةٍ كبرى تُعلّم العالم دروسًا في الإرادة. إنّها فكرة تجاوزت الجغرافيا، وقضيّة أوسع من حدود فلسطين، وروح حيّة تقول لكلّ إنسان: هناك مكان في هذا العالم اسمه غزّة، يثبت أنّ الكرامة أغلى من الخبز، وأنّ البقاء على الحقِّ أجمل من الحياة في باطل.





