Blog
منذ سقوط نظام بشار الأسد في كانون الأول/ ديسمبر 2024، يعيش السوريون فصلاً جديداً من أزمتهم المزمنة مع السكن. فبينما حلم كثيرون أن يفتح التغيير السياسي أبواب انفراج في حياتهم المعيشية، اصطدموا بواقع مغاير؛ إذ ارتفعت أسعار إيجارات المنازل في العاصمة دمشق إلى مستويات غير مسبوقة، لتسجل ما يمكن وصفه بـ”الأرقام الخيالية” مقارنة بمستويات الدخل والقدرة الشرائية.
هذه الأزمة لم تعد مقتصرة على أحياء العاصمة وحدها، بل امتدت تدريجياً إلى ريف دمشق، ثم إلى محافظات الجنوب والشمال، وصولاً إلى إدلب، لتصبح قضية السكن أحد أبرز التحديات اليومية التي تثقل كاهل السوريين في مرحلة ما بعد النظام.
تشير جولة “سطور” الميدانية واستطلاعها لعدد من أصحاب المكاتب العقارية إلى أن متوسط الإيجارات في دمشق قفز إلى مستويات غير مسبوقة. ففي أحياء مثل المالكي، أبو رمانة، المزة فيلات، المزة غربية، كفرسوسة، الشعلان والتجارة، لا يقل إيجار شقة جيدة التجهيز عن 8 ملايين ليرة سورية شهرياً (800 دولار أمريكي)، بينما تتراوح إيجارات المنازل الممتازة بين 10 ملايين (1000 دولار) و17 مليون ليرة سورية (1700 دولار).
أما في أحياء العاصمة الشعبية أو الأقل طلباً، فقد تراوحت الأسعار بين 5 ملايين (500 دولار) و15 مليون ليرة (1500 دولار) شهرياً، وهو ما يضع شريحة واسعة من السكان في مأزق حقيقي، خاصة أن الرواتب والأجور ما تزال متدنية، ولم تتغير بشكل يتناسب مع هذه القفزة في الأسعار.
لم يعد ريف العاصمة ملاذاً آمناً للسكان الباحثين عن أسعار أخف. ففي مناطق مثل قدسيا، وضاحية قدسيا، وجديدة الشيباني، دمر، ومساكن برزة، وجرمانا وضواحي أخرى، تبدأ الإيجارات من مليون ونصف مليون ليرة سورية (250 دولاراً) وتصل إلى 4 ملايين ليرة (400 دولار) شهرياً. وحتى هذه الأسعار لا تعكس التكلفة الحقيقية للسكن، إذ يضطر المستأجر غالباً لإنفاق مبالغ إضافية على إصلاحات أساسية، مثل تبديل صنابير المياه المعطلة، وإصلاح النوافذ والأبواب، أو تمديد الكهرباء والإنترنت.
يقول مصطفى عمراني، الذي استأجر منزلاً في قدسيا لعائلته المكونة من 5 أفراد: “دفعت 250 دولاراً شهرياً عن طريق مكتب عقاري، لكنني وجدت نفسي مطالباً بدفعة أولى 6 أشهر مقدماً، أي 2000 دولار، توزعت بين 1500 دولار للإيجار، و250 دولاراً عمولة للمكتب، و250 دولاراً تأمين. وبعد ذلك أنفقت أكثر من 450 دولاراً لإصلاحات أساسية داخل المنزل قبل أن يصبح صالحاً للسكن”.
الجدل الأكبر في سوق الإيجارات يدور حول دور أصحاب المكاتب العقارية. ففي حين يؤكد 6 من أصحاب المكاتب الذين تواصلت معهم “سطور” على أن الغلاء سببه المالك وليس المكتب، مشددين على أنهم مجرد وسطاء يتقاضون عمولة مقابل إتمام الصفقة، فإن مستأجرين يرون أن الواقع أكثر تعقيداً.
ماجد أبو عمر، القادم من ريف حلب والمقيم حالياً في دمشق، يرى أن المكاتب العقارية جزء أساسي من المشكلة: “كثير من المكاتب تتقاضى نسبة إضافية من الإيجار، عدا عن الكومسيون. بعض المالكين يطلب مثلاً مليوني ليرة شهرياً إيجار صافٍ، ثم يترك للمكتب حرية رفع السعر كما يشاء بالتنسيق مع مكاتب أخرى في المنطقة. بهذه الطريقة يتحول المستأجر إلى ضحية للمالك والمكتب معاً”.
ويضيف أبو عمر أن الحكومة تتحمل جزءاً من المسؤولية، لأنها تغض الطرف عن هذه الممارسات، وتسمح بالتهرب الضريبي من خلال تسجيل قيمة أقل في العقود الرسمية، بينما يتم الاتفاق على سعر أعلى خارجها.
أزمة الإيجارات لم تضرب الوافدين إلى دمشق فقط، بل شملت أبناء المدينة وريفها أيضاً. خالد الدوماني، الذي نزح سابقاً من الغوطة الشرقية إلى ريف حلب الشمالي، ثم عاد إلى دمشق بعد سقوط النظام، وجد نفسه أمام معضلة حقيقية: “منزلي في دوما مدمر بالكامل، واضطررت لاستئجار منزل في المدينة بمبلغ 200 دولار شهرياً. لم يكن بالإمكان استئجار منزل في قلب العاصمة بسبب الغلاء، ما اضطرني للعودة إلى دوما رغم أنني ابن المنطقة وأعرف أن الإيجارات هنا أيضاً ارتفعت كثيراً”.
هذه المعاناة تتكرر في مختلف المحافظات. محمد المعترماوي، العائد من تركيا بعد تهجير دام 11 عاماً، يروي تجربته: “استأجرت شقة في إدلب بـ 250 دولاراً، بينما كان نفس المنزل يؤجر قبل سقوط النظام بـ 100 دولار فقط. المالك نفسه يؤجر منزلاً آخر في حي القصور بـ 400 دولار شهرياً. الأسعار تضاعفت بلا مبرر سوى أن السوق برمتها ارتفعت”.
من خلال متابعة هذه الشهادات وما يعكسه المشهد، يمكن القول إن أزمة الإيجارات اليوم في سوريا ليست مجرد نتيجة طبيعية لتقلبات السوق. إنها انعكاس مباشر لغياب السياسات السكنية الفعالة، وانهيار منظومة الرقابة التي تركت السوق في أيدي الملاك والمكاتب العقارية.
ففي ظل ندرة المساكن الجاهزة للسكن، ودمار آلاف المنازل بفعل نظام بشار الأسد، وغياب مشاريع إسكان حكومية أو مبادرات مجتمعية واسعة، تحولت الإيجارات إلى عبء جديد يهدد استقرار الأسر السورية. المستأجر بات مضطراً للاختيار بين إنفاق نصف دخله الشهري وربما أكثر على السكن، أو البحث عن بدائل غير صالحة للعيش.
يبلغ متوسط راتب الموظف في المؤسسات الحكومية أو بعض القطاعات الخاصة نحو 100 إلى 150 دولاراً شهرياً، بينما يتجاوز إيجار شقة صغيرة في دمشق أضعاف مضاعفة لهذا المبلغ. هذه المفارقة الصارخة تجعل من الحق في السكن، وهو حق أساسي، ترفاً بعيد المنال.
الأخطر أن هذه الفجوة لا تنعكس فقط على المستوى المعيشي، بل تخلق ضغوطاً اجتماعية ونفسية عميقة. فالشباب المقبلون على الزواج يجدون أنفسهم عاجزين عن الاستقرار، والأسر النازحة تفقد آخر مقومات الأمان، فيما يضطر كثيرون إلى السكن المشترك أو العودة إلى بيوت شبه مدمرة لعدم قدرتهم على دفع الإيجار.
إن ما جرى بعد سقوط النظام يكشف عن فجوة كبيرة بين تطلعات السوريين إلى حياة أفضل، والواقع الاقتصادي القاسي. لم يكن أحد يتوقع أن تتحول الإيجارات إلى كابوس يومي يطارد الناس بهذه السرعة، خاصة بعد أن تحررت العاصمة من قبضة الأجهزة الأمنية للنظام.
المشكلة الجوهرية أن الحكومة السورية لم تضع حتى الآن سياسة إسكان واضحة، ولم تبادر إلى ضبط السوق أو إنشاء هيئة رقابية فاعلة. ورغم أن الجميع يدرك حجم الدمار في البنية التحتية، أتاح غياب الرقابة للمكاتب العقارية والمالكين التحكم في الأسعار بشكل عشوائي، وكأن السكن سلعة كمالية وليست حاجة أساسية.
في الحقيقة، أزمة الإيجارات ليست منعزلة عن المشهد الاقتصادي الأوسع. فهي جزء من أزمة معيشية شاملة تشمل الغذاء، الطاقة، وفرص العمل. لكن ما يجعلها أكثر إيلاماً أنها تمس حياة الناس بشكل مباشر ويومي، وتحرمهم من أبسط مقومات الاستقرار.
حتى اللحظة، لا توجد بوادر جادة لمعالجة هذه الأزمة. الحلول الجزئية، مثل تخفيف الضرائب أو تقديم بعض الإعفاءات، لن تكون كافية. المطلوب هو مشروع وطني لإعادة الإعمار السكني، يتضمن إعادة تأهيل المنازل المدمرة، وبناء وحدات سكنية جديدة بأسعار مناسبة، وتفعيل الرقابة الصارمة على المكاتب العقارية والعقود الرسمية.
كما أن تعزيز الشفافية في سوق العقارات، وربط الإيجارات بمعدلات الدخل، يمكن أن يخفف من معاناة المستأجرين. لكن هذه الخطوات ما تزال بعيدة المنال في ظل الانشغال السياسي والاقتصادي للحكومة السورية.
في المحصلة، يعيش السوريون اليوم مفارقة مؤلمة: بينما كان سقوط النظام بالنسبة لهم بداية أمل بحياة أكثر كرامة، وجدوا أنفسهم في مواجهة أعباء جديدة تثقل كاهلهم، وعلى رأسها أزمة الإيجارات.
لقد تحولت البيوت، التي يفترض أن تكون ملاذاً آمناً للأسر، إلى عبء ثقيل يهدد استقرارهم. وفي ظل غياب حلول عاجلة، يظل السكن في سوريا ما بعد الأسد أقرب إلى حلم مؤجل منه إلى واقع ملموس.