مجتمع

التعليم في الجزيرة السورية.. أداة قهر سياسي تسرق مستقبل الأطفال

أغسطس 29, 2025

التعليم في الجزيرة السورية.. أداة قهر سياسي تسرق مستقبل الأطفال

يقول عالم التربية البرازيلي باولو فريري: “التعليم إما أن يكون أداة للتحرر، أو أداة للقهر”، في الجزيرة السورية، يتحول هذا القول إلى واقع يومي، حيث أُغلقت المدارس الحكومية، وفُرضت مناهج مؤدلجة، وصار مستقبل جيل كامل رهيناً لصراعات سياسية. لم يعد التعليم حقاً بديهياً، بل ورقة مساومة وقهر سياسي للسكان، وأطفال الجزيرة هم الخاسر الأكبر.

 

تسيطر قسد على كل مدارس الجزيرة في الوقت الحالي، لكن في الحسكة كانت تسيطر قوات سوريا الديمقراطية (قسد) على نحو 90% من مدارس المحافظة، بينما لا تتجاوز حصة الحكومة السورية 10% فقط قبل سقوط نظام الأسد. أما اليوم، أُغلقت أبواب التعليم الرسمي أمام عشرات الآلاف من الطلاب. كثيرٌ من الأبنية المدرسية في أرياف ومدن الجزيرة تحوّل إلى مستودعات أسلحة ومقرات عسكرية ومقرات إدارية لقسد بدلاً من قاعات دراسية، فيما كانت تكتظ المدارس القليلة الباقية تحت إشراف الحكومة بالطلاب ضمن دوام مزدوج لاستيعاب الأعداد، لكن قبل أيام أبلغت قسد جميع هذه المدارس أنها لن تفتح هذا العام.

 

استخدمت قسد ملف التعليم ورقة تفاوض سياسية: فمن جهة تحرم الطلاب من التعليم الرسمي المعترف به دولياً، ومن جهة أخرى تربط أي حل بتلبية شروطها. وأفادت تقارير محلية أن آلاف الطلاب باتوا مهددين بخسارة عامهم الدراسي نتيجة هذا الإغلاق، حيث ترفض قسد السماح بأي تسوية تضمن تعليمهم ما لم تتحقق مطالبها السياسية. أي أن مستقبل هؤلاء الأطفال تحوّل فعلياً إلى رهينة للصراع السياسي بين الإدارة الذاتية وحكومة دمشق. لقد بدا واضحاً أن التعليم بات ورقة مساومة في يد قسد، تضغط بها على الحكومة السورية خلال المفاوضات الجارية. ففي اتفاق 10 آذار/ مارس الموقّع بين مظلوم عبدي والرئيس الشرع، طُرحت قضية توحيد المؤسسات بما فيها التعليم، لكن سرعان ما برزت الخلافات حولها.

 

الحكومة الجديدة تتهم قسد بالمماطلة والتنصل من بنود الاتفاق، فيما تُصر قسد على شروط تراها دمشق تعجيزية ومخالفة لبنود الاتفاق، ولذلك بدأت قسد استخدام أدوات ضغط متعددة، وبطبيعة الحال كان التعليم أهمها، حيث لم تتردد قسد في تعليق العملية التعليمية كورقة ضغط أملاً بتحقيق مكاسب سياسية عبر ابتزاز دمشق بمعاناة عشرات الآلاف من التلاميذ وذويهم. هكذا أصبح مصير جيل كامل من أطفال الجزيرة عالقاً بانتظار ما سيسفر عنه بازار المفاوضات بين الكبار، في مشهد يختزل مدى تسييس حق أساسي كالتعليم على حساب المصلحة الفضلى للأطفال.

 

 

 

مناهج مؤدلجة ورفض أهلي.. معاناة الطلاب بين خيارين أحلاهما مرّ

في الجزيرة، يواجه الأهالي مأزقاً قاتلاً: إما إرسال أبنائهم إلى مدارس الإدارة الذاتية ذات المناهج المؤدلجة وغير المعترف بها، أو تركهم بلا تعليم بعد أن أُغلقت المدارس الحكومية بالقوة. شهادات هذه المدارس لا قيمة لها، ما يعني حرمان الطلاب من مستقبلهم الجامعي والمهني، بينما تُفرض عليهم مناهج مشحونة بالأيديولوجيا الحزبية. وقد رفضت مختلف المكونات عربية وكردية وسريانية هذا النهج الأحادي الذي يعبث بهوية المجتمع ويطمس تنوعه.

 

دراسة لمعهد فريدريش إيبيرت الألماني صدرت عام 2023 أثبتت أن هذه المناهج صيغت على مقاس الفكر الحزبي المهيمن، مع تلاعب في المعلومات التاريخية والجغرافية، وتُمجّد رموزاً مثل عبد الله أوجلان باعتباره “قائداً عظيماً”، في محاولة واضحة لغرس ولاءات ضيقة وتشويه وعي الأطفال، مع إهمال خطير للمواد العلمية واللغات.

 

هكذا تحوّلت المدرسة من فضاء للعلم إلى أداة للهيمنة الفكرية، فبات جيل كامل مهدداً بالأمية والتسرّب، وزُجّ به في دوامة عمل الأطفال وزواج القاصرات وحتى التجنيد. إنها جريمة ممنهجة بحق الطفولة، إذ يُستبدل القلم بالشعارات، ويُستبدل الكتاب بأجندة سياسية، ويُختطف المستقبل كله رهينة لمشروع أيديولوجي يزرع بذور صراعات الغد، ويجهز لجيل غذّي بأفكار قاتلة.

 

 

 

التعليم أولوية ما بعد الحرب وحق أساسي للطفل

بعد أكثر من عقد دامٍ من الحرب والتهجير في سوريا، بات إصلاح التعليم واستئناف عجلة الدراسة ضرورة قصوى في مرحلة ما بعد الصراع. فتجارب الدول التي خرجت من نزاعات طويلة تؤكد أن إعادة إعمار الإنسان أصعب وأهم من إعادة إعمار العمران. والتعليم هو حجر الأساس في بناء الإنسان القادر على طي صفحة الحرب وصنع مستقبل أفضل لوطنه. وكما شدد الزعيم الراحل نيلسون مانديلا: “التعليم هو أقوى سلاح يمكنك استخدامه لتغيير العالم”. هذه الحكمة تختزل حقيقة أن نهضة المجتمعات بعد الحروب لن تتحقق إلا بتسليح الأجيال بالعلم والمعرفة عوضاً عن البنادق. فالطفل الذي يفوته قطار المدرسة اليوم، سيفوّت وطنه غداً فرصة النهوض والسلام المستدام.

 

من منظور حقوق الإنسان والقانون الدولي، التعليم حق أساسي مكفول لكل طفل، بغض النظر عن أي اعتبار سياسي أو عسكري. لقد نصت اتفاقية حقوق الطفل لعام 1989 (التي صادقت عليها سوريا) في مادتها الثامنة والعشرين على حق الطفل في التعليم المجاني وإلزامية التعليم الأساسي. كما تضع أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة (خطة 2030) هدفاً خاصاً لضمان التعليم الجيد المنصف والشامل للجميع. وما يجري في الحسكة اليوم هو انتهاك صريح لهذه المواثيق. فبدل أن تعمل سلطات الأمر الواقع على تسهيل تعليم الأطفال وتذليل العقبات أمامه، نجدها تتعمد وضع العراقيل وتسييس هذا الحق الإنساني لتحقيق مآرب ضيقة. وهذا لا يجوز أخلاقياً ولا قانونياً، إذ لا يمكن تبرير حرمان طفل من مدرسته لأي سبب كان.

 

وقد أكدت اليونيسف أن “تعليم الأطفال يجب أن يبقى بمنأى عن النزاعات السياسية، فهو شريان حياة للأجيال ولا يمكن تركه رهينة للتجاذبات”. ثمّة أيضاً بُعد تنموي وأمني لمسألة التعليم بعد الحرب. فخبراء علم الاجتماع يحذرون من أن إطالة أمد انقطاع الأطفال عن الدراسة سيؤدي إلى نشوء جيل ضائع، يرتفع فيه معدل الأمية والبطالة والجريمة. وتشير الإحصاءات الأممية إلى وجود 2.4 مليون طفل سوري خارج المدرسة عام 2025 على مستوى البلاد، ما يعني جيلاً كاملاً مهدداً بالجهل والتطرف. وفي الحسكة، رأينا بوادر ذلك مع تحول بعض الأطفال إلى سوق العمل مبكراً أو انخراطهم في أنشطة خطرة لملء فراغهم، وبعض المنظمات الحزبية التابعة لقسد تستغل ذلك وتمكنت من تجنيدهم ودفعهم لحمل السلاح.

 

إن حرمان الطفل من التعليم هو بمثابة حكم بسجنه في دائرة الفقر والجهل مدى الحياة. وفي المقابل، فإن إعادته إلى المدرسة تقيه شروراً كثيرة وتمنحه أدوات بناء المستقبل لنفسه ولمجتمعه. من هنا، فإن إحياء العملية التعليمية في مرحلة ما بعد الحرب يوازي في أهميته إرساء الأمن وإعادة الإعمار المادي. بل هو الشرط لضمان عدم انزلاق البلد مجدداً في أتون العنف، لأن التعليم يغرس قيم التسامح والتفكير النقدي ويبعد الناشئة عن براثن الأفكار المتطرفة التي تزدهر في بيئات الجهل واليأس. لقد آن الأوان لنتذكر شعار عميد الأدب العربي طه حسين قبل قرن حين قال: “التعليم كالماء والهواء، يجب أن يكون متاحاً للجميع”. هذا الشعار الذي رفعه طه حسين وهو يقود ثورة تعميم التعليم في مصر، ينطبق اليوم تماماً على مأساة طلاب الحسكة. فكما لا يمكن حرمان الإنسان من الماء والهواء، لا يجوز حرمان طفل من حقه في مقعد دراسي وكتاب ومعلم. وأي سلطة تفعل ذلك إنما ترتكب جريمة بحق مستقبل الوطن قبل أن تكون جريمة بحق الطفل وحده.

 

 

 

دعوة للتحرك الدولي والمحلي العاجل لحماية حق التعليم

في ضوء ما سبق، تتعالى أصواتنا نحن أبناء الجزيرة السورية مطالبةً بتحرك عاجل لإنقاذ الواقع التعليمي الكارثي في الجزيرة السورية. المسؤولية في ذلك مشتركة على المستوى المحلي والدولي، ويجب وقف تسييس ملف التعليم فوراً والتوصل إلى ترتيبات تضمن عودة جميع الطلاب إلى مدارسهم فوراً. وينبغي لوسطاء السلام الدوليين، سواء المبعوث الأممي لسوريا أو المبعوث الأمريكي وممثلي الاتحاد الأوروبي، إدراج ملف التعليم على أنه أولوية ما قبل تفاوضية وتحييده عن التجاذبات، ووضع حد لما تفعله قسد من تضييع غير مبرر لمستقبل أبناء المنطقة. وأي وسيط تفاوضي يفشل في إعادة ملايين الأطفال إلى مقاعد الدراسة، عمله منقوص ومحكوم عليه بالعثرة مستقبلاً. كل ذلك يجب أن يترافق مع رفع صوت أبناء المنطقة عالياً ليكون حراكاً ضاغطاً لافتتاح المدارس من جديد.

 

ورغم كل الملاحظات على المنهاج الحكومي، يبقى هو حبل النجاة الوحيد، كونه المنهاج الرسمي المعترف به والذي يشكل في الوقت الراهن الهوية السورية الجامعة لكل السوريين. غير أن هذا لا يعفي وزارة التربية والمجلس الأعلى للتربية والتعليم من مسؤولية التحرك بسرعة وجدية لتطويره والتخلص من إرث نظام الأسد، وذلك بالاستعانة بخبرات المنظمات الدولية المختصة.

 

في الختام، لا بد من التذكير على أن إنقاذ جيل التعليم في الجزيرة السورية اليوم هو إنقاذ لمستقبل سوريا غداً. هؤلاء الآلاف من الأطفال والتلاميذ ليسوا مجرد أرقام في سجلات النزاع، بل هم أحلام وعقول ينبغي أن تُصقل بالعلم لا أن تُترك فريسة للجهل والتطرف. إن مشهد الكتب الدراسية المغلقة والغبار الذي يعلو مقاعد الدراسة الفارغة في الحسكة والرقة ودير الزور هو جرس إنذار لنا جميعاً. وواجب الإنسانية يحتم أن ندق ناقوس الخطر: التعليم ليس ميداناً للمعارك السياسية، بل خط أحمر ينبغي أن تتكاتف الجهود لحمايته.


رسالة عشرات آلاف الأطفال في مدن وقرى الجزيرة السورية يمررونها بحسرة وغضب: “ارفعوا أيديكم عن مدارسنا ودعونا نبني مستقبلنا بأيدينا”. إنه نداء إنساني قبل كل شيء: أنقذوا تعليم أطفالنا اليوم، قبل أن يُكتب الغد على صفحات جهل قاتم، يولد منه ما لا يُحمد عقباه، فالتاريخ علمنا أن من يزرع القهر لن يحصد إلا الجهل والدمار.

شارك