أدب
الكاتب: أحمد الياماني
حين صدرت رواية “مديح الكراهية” للروائي السوري خالد خليفة عام 2006، بدت كأنها تقرأ التاريخ الدموي لسوريا بقدر ما تستشرف مستقبلها. الرواية التي تناولت أحداث الثمانينيات، من صراع النظام مع المعارضة المسلحة، ومن التصدعات الطائفية والاجتماعية التي غذّاها الاستبداد، لم تكن مجرد حكاية أدبية، بل شهادة على بنية العنف المتجذرة في الدولة والمجتمع.
واليوم، بعد سقوط نظام الأسد ودخول سوريا مرحلة انتقالية حساسة، تعود هذه الرواية لتطرح أسئلتها المؤلمة من جديد: هل تجاوز السوريون تلك الكراهية الموروثة؟ أم أن أشباحها ما تزال تتجول بين أنقاض المدن والقرى، كما في أحداث الساحل والسويداء الأخيرة؟
في “مديح الكراهية” نتابع بطلةً شابة تنغمس في أجواء التعصب والانتقام، وتجد نفسها ضحيةً للظروف السياسية والاجتماعية التي دفعتها إلى أقصى درجات التطرف. شخصيات الرواية تتحرك في عالم ينهشه الخوف من السلطة ويعج بالكراهية الطائفية. وما يثير الانتباه أن هذه الشخصيات ليست كلها ضحايا أو جلادين فقط، بل خليط معقد من الاثنين، حيث يذوب الحد الفاصل بين المظلوم والظالم في دوامة الدم.
اليوم، وبعد مرور أكثر من 4 عقود على المرحلة التي تناولتها الرواية، نجد أن سوريا ما زالت تواجه الإرث ذاته. صحيح أن النظام الاستبدادي الذي كرّس الكراهية قد انهار أخيراً، لكن آثار سياساته لم تتلاشَ. فما شهدناه مؤخراً في أحداث الساحل والاحتجاجات في السويداء يذكّرنا بأن الجراح القديمة لم تلتئم بعد، وأن رواسب الطائفية والعنف ما تزال تهدد وحدة السوريين.
من أبرز رسائل “مديح الكراهية” أن الاستبداد لا يزول بسقوط رأس النظام فحسب، بل يحتاج إلى مواجهة ثقافة كاملة قامت على الخوف والانقسام. والحكومة الانتقالية اليوم تواجه هذا التحدي العسير: كيف يمكن بناء دولة جديدة على أنقاض دولة أفلست أخلاقياً وسياسياً واقتصادياً؟
المشهد الراهن في الساحل، حيث تصاعدت أعمال الثأر والانتقام، وفي السويداء حيث رفعت الجماهير أصواتها مطالبة بالحرية والكرامة، يكشف أن سوريا الجديدة ليست مجرد مشروع سياسي، بل معركة وجودية ضد ثقافة الكراهية التي تغلغلت في المجتمع لعقود. الحكومة الانتقالية مطالبة بترسيخ العدالة الانتقالية، ورد الاعتبار للضحايا، وفتح المجال لمصالحة وطنية حقيقية، وإلا فإن دوامة الدم ستعود لتكرر نفسها بأشكال جديدة.
الرواية تفضح كيف تُستخدم الكراهية أداة سياسية، وكيف يتحول الدين أو الهوية المذهبية إلى وسيلة للسيطرة والإقصاء، وهذا ما فعله النظام الأسدي طيلة نصف قرن: جعل المجتمع يبتلع سموم الخوف والكراهية، حتى أصبح السوريون ينظرون إلى بعضهم البعض بعيون مرتابة.
لكن سقوط النظام يفتح نافذة جديدة: إمكانية التحول من “مديح الكراهية” إلى مديح المصالحة. وهذه مسؤولية لا تقع على عاتق الحكومة الانتقالية وحدها، بل على النخب السياسية والمثقفين وقادة المجتمع المدني. يجب إعادة صياغة الهوية الوطنية السورية على أسس الحرية والمواطنة، بعيداً عن الانقسامات الطائفية والعرقية.
يمكن النظر إلى الرواية اليوم كتحذير مسبق مما قد يحدث إذا لم يُحسن السوريون إدارة هذه المرحلة الحرجة. فهي تقول لنا إن التاريخ قد يعيد نفسه إن لم نتعلم منه، ومن أبرز الدروس التي يمكن استخلاصها:
بعد عقود من “مديح الكراهية”، آن الأوان أن يتحول السوريون إلى مديح الحياة. الطريق ليس سهلاً، فالأحداث الأخيرة في الساحل والسويداء تظهر أن الجروح عميقة وأن المصالحة الوطنية ما تزال بعيدة. لكن سقوط الأسد يمثل فرصة تاريخية لا تنبغي إضاعتها.
الحكومة الانتقالية أمام تحدٍ مزدوج: إعادة بناء مؤسسات الدولة من جهة، ومعالجة الانقسامات المجتمعية من جهة أخرى. النجاح في هاتين المهمتين هو ما سيحدد إن كانت سوريا ستغادر أخيراً دوامة الدم والكراهية، أم ستبقى عالقة في دائرة رواية خالد خليفة.