سياسة

إزالة الأصفار من الليرة السورية.. بين دروس أردوغان ورسائل السياسة السورية

أغسطس 28, 2025

إزالة الأصفار من الليرة السورية.. بين دروس أردوغان ورسائل السياسة السورية

إنّ الإعلان عن إصدار عملة جديدة في سوريا لم يكن أجراء مالياً تقنياً، بل اعتبر كأنه طيّ لصفحة كان إرثها ثقيل على السوريين منذ عقود، فالقراءة في إزالة صفرين من الليرة لا يعني فقط حسابات في الجيوب، بل حسابات للسياسات الساسيّة والهويّة أيضاً، وكأنما هي رسالة مفادها أنّ زمن الأصفار التي صنعها استبداد الأسد البائد قد انتهى، واللافت أنّ الخطوة تأتي متزامنة مع الذكرى الأولى لسقوط نظام الأسد البائد، في تذكير بأن التحولات الاقتصادية ليست معزولةً عن مسار التحولات السياسية.

 

 ومن هنا يفتح النقاش نفسه:  هل نحن أمام تجربة سورية خالصة، أم أن صدى تجربة رجب طيب أردوغان في تركيا، حين أزال 6 أصفار من الليرة عام 2005، يطلّ من جديد عبر الحدود؟ ما بين الرمزية السياسية والإرث الاقتصادي المنهك، يظل السؤال قائماً: هل تكفي إزالة الأصفار لتغيير الواقع، أم أنّها محاولة للالتفاف على عمق الأزمة البنيوية؟

 

 

تجربة مختلفة

حسبما نقلته وكالة رويترز عن مصدر خاص في الحكومة السوريّة الجديدة، فإنّ الأخيرة تستعدّ لطباعة عملة جديدة عبر شركة روسيّة متخصصة، على أن يبدأ تداولها مع مطلع ديسمبر المقبل، فيما اعتبرت هذه الخطوة والتي تقوم على إزالة صفرين من العملة الحالية، شبيهة بما فعله رجب طيب أردوغان عام 2005 حين أزال 6 أصفار من الليرة التركية، لكن رغم هذا التشابه الظاهري، فإن الفارق في السياق يجعل التجربتين بعيدتين كل البعد.

فتركيا يومها كانت قد أنهت عقوداً من التضخّم المفرط، لكنها كانت دولةً قائمةً بمؤسساتها، منفتحةً على الأسواق الأوروبية، وتستعد للتفاوض الجدّي على عضوية الاتحاد الأوروبي.

 

أما سوريا اليوم، فهي خارجة لتوّها من مرحلة انهيار شامل دمّر بنية الدولة، وأخرجها من النظام المالي العالمي لأكثر من عقد، ومن هنا فإن قرار إزالة الأصفار لا يقرأ ضمانة فورية لولادة اقتصاد مستقر، بقدر ما يقرأ بداية سياسية اقتصادية جريئة، ومحاولةً عملية لإعادة سوريا إلى المسار الطبيعي، فالخطوة لا تعكس مجرّد طموح نظري، بل إرادة حكومة تحاول، في عامها الأول، أن تضع بصمتها في أخطر الملفات وأكثرها حساسية.

 

المعضلة تكمن في أن الليرة السورية لم تفقد قيمتها بسبب تراكم الأصفار وحده، بل نتيجة منظومة حكم سابقة أفرغت الاقتصاد من مضمونه، وأبقت المجتمع رهينةً لمعادلات الحرب والفساد والعقوبات.

 

 واليوم، تحاول الحكومة الجديدة أن تبرهن أن المشكلة ليست في الأورق المطبوعة بل في السياسات التي تديرها، وأنّ تغيير هذه السياسات هو البداية الحقيقية لأي استقرار.

 

من هنا، قد تكون المقارنة بتجربة أردوغان مغريةً للخطاب السياسي، لكنها على أرض الواقع محفوفة بالمخاطر؛ إذ لا مؤسسات قوية بعد، ولا قطاع إنتاجي قادر، ولا بيئة استثمارية مكتملة، ومع ذلك فإن اختيار الحكومة للمغامرة بهذه الخطوة، وفي توقيت بالغ الرمزية، يظهر أنها تدرك الحاجة لكسر الجمود، وأنها تراهن على استعادة ثقة الداخل والخارج عبر إصلاح تدريجيّ قد لا يثمر سريعاً، لكنه يضع سوريا على سكّة مختلفة تماماً عمّا عاشته تحت حكم الأسد.

 

رمزية القطيعة

الهدف السوريّ من تغيير العملة يتجاوز اليوم الأبعاد الاقتصادية الضيّقة، ليتحول إلى خطوة سياسية تحمل دلالات عميقة، فحين أعلنت الحكومة الجديدة عبر مصادر مطّلعة لوكالة رويترز أن الأوراق النقدية المقبلة ستطبع في مؤسسة روسية، مع إزالة صفرين من قيمتها، لم يكن اللافت فقط هو الجانب الفني أو محاولة مواجهة التضخّم، بل كان الأبرز هو قرار حذف صور بشار الأسد من النقود، فالعملة السورية ومنذ عقود، لم تكن مجرّد وسيلة تبادل، بل أداة دعاية سياسية، تكرّس حضور الحاكم في جيوب الناس وحياتهم اليومية.

 

لقد ارتبطت صورة الأسد الأب ثم الابن بالليرة كارتباط الاسم بالصفة، حيث أصبح كل تبادل نقدي استذكاراً لسطوة الفرد الذي حكم البلاد وهذا الاستخدام الدعائي للعملة ليس تفصيلاً شكلياً، بل هو ممارسة دكتاتورية عميقة، تحوّل النقود من رموز للهوية الوطنية إلى بطاقة شخصيّة للنظام الحاكم، فلا غرابة أن يتذكر السوريون جيداً كيف تحولت الأسواق إلى مسارح إجبارية لعرض صورة الحاكم، حتى في تفاصيل البيع والشراء، في إمعان بربط لقمة الخبز بمقام السلطة.

 

اليوم، حين يقال إنّ العملة الجديدة ستخلو من تلك الصور، فهذا يعني أكثر من تغيير تقني: إنه إعلان سياسيّ بامتياز، فالليرة المقبلة تسعى إلى أن تكون هويةً جامعةً لا هوية مفروضة، وأن تعبّر عن السوريين بوصفهم شعباً لا بوصفهم رعايا لحاكم، إنها محاولة لإعادة تعريف معنى الدولة، عبر أبسط أدواتها وأكثرها التصاقاً بالمواطن: النقود.

 

الخطوة تحمل أيضاً بُعداً رمزياً على المستوى الخارجي، فالتخلّي عن “عملة الأسد” يعني التخلّي عن إرث كامل من العزلة والدكتاتورية، والتوجه نحو بناء صورة مختلفة لسوريا أمام شركائها الجدد، سواء في الإقليم أو في النظام المالي العالمي، ومن هنا فإن العملة ليست فقط أداةً لتسهيل المعاملات، بل أيضاً وثيقةً سياسيةً تقول للعالم: لقد انتهى زمن الطاغية، وهذه دولة تعيد تعريف نفسها عبر اقتصادها كما عبر سياساتها.

 

 

التحديات

إن تنفيذ خطوة تغيير العملة لا يمر بمجرّد قرار سياسيّ أو إعلان رسميّ، بل يحتاج إلى سلسلة طويلة من التحضيرات الفنيّة والإدارية والإعلامية، التجارب العالمية من تركيا إلى دول أوروبا الشرقيّة، تظهر أن أي تعديل نقدي واسع يتطلب تعبئةً جماهيريةً كبيرة، وجاهزيةً بنكيّة متكاملة، إضافةً إلى خطط مدروسة لكبح التضخّم ومنع انهيار الثقة بالعملة.

 

في الحالة السورية، تبدو هذه الشروط أكثر تعقيداً، شبكة المصارف المحلية ما تزال هشّة بعد سنوات الحرب والانقسام، والبيئة التشريعية ما تزال في طور البناء، بينما الاقتصاد غير الرسميّ يسيطر على جزء كبير من الدورة الماليّة، بالإضافة إلى ذلك أن حملات التوعية والإعلام تحتاج إلى أدوات حديثة ورسائل ذكيّة لإقناع المواطن بأن العملة الجديدة ليست مجرد ورق مطبوع، بل بدايةً لمشروع إعادة بناء الثّقة بالدولة والاقتصاد.

 

كما أنّ التضخّم المرتفع اليوم يشكّل تحدياً حقيقياً، إذ يمكن لأي تقلبات مفاجئة أن تقوّض جهود الحكومة قبل أن تثمر، وحول ذلك يظهر دور المؤسسات الماليّة الجديدة في مراقبة الأسواق، وضبط أسعار الصّرف، وإدارة الاحتياطي النقدي، لتجنب أي فوضى قد تؤدي إلى فقدان مصداقية الإصلاح.

 

وبجانب الجانب الاقتصادي، هناك تحديات سياسيّة ورمزية، فالسوريون الذين عانوا عقوداً من سوء إدارة الدولة يحتاجون إلى دليل ملموس على جدّية الحكومة الجديدة، ليس فقط في إزالة صفرين من العملة، بل في خلق بيئة مستقرة تضمن الحقوق وتعيد بناء الثّقة الداخلية والخارجية معاً.

إنّ نجاح هذه الخطوة يعتمد على التوازن بين الرمز السياسي، والاقتصاد الواقعي، والقدرة على التواصل مع الشعب بوضوح، وإقناعه بأنّ التحوّل النقدي خطوة أولى في طريق طويل لإعادة بناء سوريا الجديدة.

 

الخطوة تحمل رمزية قوية: إزالة صور الأسد من النقود ليست مجرّد تغيير شكلي، بل رسالةً بأنّ مرحلة الطغيان انتهت، وأنّ الدولة أصبحت محور السّلطة لا الفرد الحاكم، هذه الرمزية تعزز شرعية الحكومة الجديدة وتضعها في موضع قوة أمام الداخل والخارج، إذ تظهر سعيها لتأسيس هوية مالية وسياسيّة مستقلة، قائمة على العدالة والمساءلة.

 

اقتصادياً، تدرك الدولة أن إزالة الأصفار لن تحلّ كلّ المشكلات، لكنها تشكّل بداية عملية لتسهيل المعاملات، وضبط الأسواق، وكبح التضخّم، وتهيئة الأرضية لإصلاحات أوسع تشمل البنية المصرفيّة والقطاع الإنتاجي.

 

رمزياً، ترسل الورقة النقدية الجديدة رسالة للمواطنين: الدولة تقف إلى جانبهم، وهناك مشروع لإعادة ترتيب الاقتصاد والسياسة والهوية الوطنية معاً، تصبح الورقة أكثر من وسيلة تبادل؛ إنها وثيقة ثقة وبيان نوايا، دليل على أنّ سوريا الجديدة تسير بخطى ثابتة نحو الاستقرار، وقادرةً على تحويل الرمز إلى واقع ملموس، والمخاطر إلى فرص لبناء مستقبل أفضل.

شارك