مدونات
للكاتبة: نور الحلو
في غزة لا يوجد شيء يشبه المألوف، لا صباح هادئ ولا مساء ينتهي بلا وداع. كل يوم يحمل احتمال النهايات، وكل لحظة قد تتحول إلى خبر عاجل. وفي وسط هذه الفوضى يقف الصحفي حاملًا كاميرته وقلمه، لا ليبحث عن سبق صحفي، بل ليصطاد الحياة من بين الركام قبل أن تبتلعها الحرب.
أن تكون صحفيًا في غزة لا يعني أنك تغطي حربًا من بعيد، بل يعني أنك تعيشها، تتنفسها، وتكتب عنها بينما دخان القصف لا يزال عالقًا في أنفاسك. الكاميرا ليست أداة عمل فقط، بل درع هش في وجه الموت، والقلم ليس أداة تعبير، بل سلاح في معركة الحقيقة ضد النسيان.
منذ اللحظة الأولى للحرب يصبح الصحفيون هدفًا غير معلن، يُقتل البعض منهم مع عائلاتهم، ويصاب آخرون أثناء قيامهم بواجبهم. ومع ذلك لا يتوقفون؛ يركضون نحو الأماكن التي يهرب منها الجميع، يصعدون إلى الأسطح ليوثقوا الغارات، يدخلون الأزقة ليصوروا الأطفال تحت الأنقاض، يجرون مقابلات مع الناجين وسط الصراخ والدمار، وكل ذلك تحت خطر دائم لا يتوقف.
كل مصور في غزة هو مشروع شهيد، يحمل الكاميرا بيد وفي الأخرى قلبه الذي يرتجف. يخرج وهو لا يعلم إن كانت هذه الصورة التي يلتقطها الآن ستكون آخر صورة في حياته، أو ربما آخر ما تبقى منه.
“لا يمكنك أن تكون حياديًا هنا” يقول أحد الصحفيين الميدانيين. كيف تكون حياديًا وأنت ترى طفلة تُنتشل من تحت الأنقاض بلا رأس؟ كيف تلتقط الصورة ولا ينهار قلبك مع كل فلاش؟ كيف تكتب التقرير وتخونك الكلمات؟! لا مكان للحياد في ساحة يغمرها الدم، ولا معنى لـ”الموضوعية” حين يكون القتل ممنهجًا والضحايا بلا صوت. الصحفي هنا لا يوثق فقط، بل يصرخ: هو صوت من لا صوت له، وعين من لم يعد يُرى.
وسائل الإعلام العالمية والوكالات الإخبارية الكبرى تطلب صورًا “ساخنة” تُنقل فورًا قبل أن يبرد الدم. يريدون لقطات مباشرة للدمار، للجثث، للصرخات. يريدون أن “يشاهد” العالم كل شيء، لكنهم غالبًا لا يقولون كل شيء. في هذا المشهد يتحول الصحفي الغزي إلى ناقل لمعاناة لا تُحتمل، لكنه أيضًا يُجبر على مجاراة ديكتاتورية “المشاهدة”. عالم مهووس بالصور المروعة لا يكتفي بضحايا الأمس، بل يطالب بجثث جديدة كل يوم. وبينما يُركز المشاهد على جمال الصورة، يبقى الصحفي وحيدًا خلف العدسة يتساءل في داخله: “هل خلّدتهم بهذه الصورة؟ أم قتلتهم مرة ثانية؟”
العدسة تجمد اللحظة، ولكنها لا تطفئ الألم. في كل صورة تُرسل إلى العالم، يحمل الصحفي قطعة من ذاكرته، من روحه، من قلبه الذي يكاد لا ينبض من هول ما يرى. بعضهم لا ينام؛ يتقلب بين الكوابيس أو يستيقظ على صوت قذيفة فيهرع إلى المكان لتوثيق المأساة. وبين تقرير وآخر، وصورة وأخرى، تبدأ ملامحه تتغير، ليس من التعب فقط، بل من الألم الذي يترسب في داخله دون أن يجد له مخرجًا.
رغم ذلك هم لا يتوقفون، ليس لأنهم لا يشعرون بالخوف، بل لأنهم يعرفون أن الحقيقة بحاجة إلى من يحملها في وجه العاصفة. يعرفون أن الكاميرا قد لا توقف حربًا، لكن الصورة قد تحرك ضميرًا، وأن الكلمة قد لا تحمي طفلًا من القصف، لكنها قد تُسقط قناعًا عن وجه الكذب.
في زمن تهيمن فيه الروايات المزيفة والتهويمات الإعلامية، يصبح الصحفي الغزي هو الجدار الأخير بين الحقيقة والتضليل. هو الشاهد الذي لا يجب أن يُقتل، هو الراوي الذي إن سكت ضاعت القصة إلى الأبد.
لكن ماذا عن الصحفي ذاته؟ من يوثق جراحه؟ من يسمع صوته؟ من يصوره وهو يبكي خلف الكاميرا؟ هؤلاء الذين يقفون في الصفوف الأمامية لا أحد يلتفت إليهم حين ينتهون من البث أو يغلقون العدسة. لا أحد يرى كم خسروا من أنفسهم وهم ينقلون الحقيقة. يكتبون عن الشهداء بينما فقدوا أصدقاءهم، يصورون الجنازات بينما لم يتمكنوا من دفن أحبائهم، ينقلون معاناة الناس بينما بيوتهم دُمرت وأطفالهم بلا مأوى. هم جزء من هذه الحكاية، وليسوا مراقبين من الخارج.
في نهاية اليوم يعود الصحفي إلى مكانه، إن كان له مكان لم يُقصف بعد. يجلس، يتفقد الصور، يعدل التقرير، يرفع المادة إلى الوكالة، ثم ينظر حوله بصمت. لا أحد يصفق له، ولا أحد يسأله: “كيف حالك؟” وربما حين ينام يرى وجوه من صورهم… تلك التي أصبحت اليوم بلا ملامح.
أن تكون صحفيًا في غزة يعني أن تحترف التوثيق وسط الخطر، وأن تتقن الصمت وسط الضجيج. يعني أن تُنقذ الحقيقة ولو كلفك ذلك حياتك. هم ليسوا ناقلي أخبار، بل حراس ذاكرة يقاتلون بالكلمة، ويصمدون بالصورة، ويواجهون النسيان وحدهم. وفي هذا الزمن الذي تموت فيه الحقيقة على أعتاب المصالح، يبقى الصحفي في غزة هو من يكتب تاريخ الألم بصدق، ومن يصور الحقيقة قبل أن تختفي تحت ركام الكذب.