مجتمع

المدارس الخاصة في دمشق.. غلاء كبير في الأقساط وحلم للمواطنين

أغسطس 22, 2025

المدارس الخاصة في دمشق.. غلاء كبير في الأقساط وحلم للمواطنين

تشهد العاصمة السورية دمشق منذ سنوات ارتفاعاً غير مسبوق في أقساط المدارس الخاصة، لتتحول هذه المدارس من خيار تعليمي إلى “حلم بعيد المنال” بالنسبة لغالبية العائلات السورية. وبينما يتراوح قسط الطالب الواحد سنوياً ما بين 800 دولار أمريكي في المدارس متوسطة الجودة إلى ما يقارب 1800 دولار في المدارس المصنّفة عالية الجودة، فإن هذه الأسعار تبدو غير واقعية على الإطلاق عند مقارنتها بمتوسط دخل الأسر السورية، حتى تلك التي تمتلك موظفاً حكومياً أو عاملاً في القطاع الخاص.

 

وبينما يعجز كثير من الأهالي عن تسجيل أبنائهم في مدارس خاصة بسبب العبء المالي الكبير، لا يجدون أمامهم سوى المدارس الحكومية التي تعاني من ضعف في مستوى التعليم منذ زمن النظام السابق لأسباب عديدة، أبرزها تدني أجور المعلمين، وتراجع البنية التحتية، وضعف الإشراف التربوي. الأمر الذي يضع العائلات السورية أمام خيارين كلاهما مُر: إما دفع أقساط باهظة لا تتناسب مع الدخل، أو الاكتفاء بالتعليم العام الذي لا يحقق تطلعاتهم لأبنائهم.

 

بين راتب الموظف وأقساط التعليم

يقول مصطفى أبو محمد، وهو موظف حكومي هُجر من الغوطة الشرقية إلى الشمال السوري لسنوات، وعاد إليها بعد التحرير: “لدي 4 أطفال في مراحل دراسية مختلفة. راتبي الشهري لا يتجاوز 3 ملايين ليرة سورية، أي ما يقارب 32 مليون ليرة في السنة. بينما يحتاج تسجيل أولادي الأربعة في مدارس خاصة متوسطة الجودة إلى نحو 40 مليون ليرة سنوياً، هذا غير القرطاسية والمصاريف الأخرى. لذلك فإن الأمر مستحيل، وسأضطر لتسجيلهم في المدارس الحكومية رغم ضعف مستواها”.

 

حديث مصطفى يعكس المعضلة الأساسية التي يواجهها معظم السوريين اليوم: فجوة هائلة بين تكلفة التعليم الخاص والدخل الحقيقي للأسرة. إذ إن كلفة تسجيل 4 طلاب في مدارس خاصة متوسطة تعادل أكثر من عام كامل من دخل موظف حكومي، ما يجعل التعليم الخاص رفاهية لا يجرؤ على التفكير بها سوى شريحة ضيقة من العائلات الميسورة أو تلك التي تمتلك مصادر دخل إضافية.

 

 

“استثمار في مستقبل الابن”

من جهة أخرى، ترى بعض العائلات أن الاستثمار في المدارس الخاصة هو السبيل الوحيد لضمان مستقبل أبنائها، حتى إن اضطرّت لتحمل أعباء مالية كبيرة.

سوسن الحسن، من سكان ريف دمشق، تسجّل ابنها في إحدى المدارس الخاصة بمنطقة قدسيا: “دفعت 4 ملايين ليرة سورية قسطاً أولياً، وهناك قسطان آخران بالمبلغ نفسه، أي أن التكلفة السنوية تصل إلى 1200 دولار (12 مليون ليرة سورية تقريباً). أعلم أن المبلغ كبير جداً، لكنني لا أرغب بتسجيل ابني في مدرسة حكومية لأنني سأضطر بعدها لتأمين دروس خصوصية له، وهذا سيكون مرهقاً أكثر. في المدرسة الخاصة يحصل على تعليم أفضل ومتابعة دقيقة تنمي شخصيته وقدراته”.

 

بالنسبة لسوسن، فإن التعليم العام لا يُعوَّل عليه، والاستثمار في التعليم الخاص، رغم تكلفته الباهظة، يبدو أكثر جدوى على المدى البعيد. غير أن هذا الخيار ليس متاحاً للجميع، بل يظل محصوراً في الفئات التي تمتلك دخلاً أعلى أو دعماً من أقارب في الخارج.

 

 

قرارات رسمية لا تنعكس على الأرض: التعليم الخاص خارج السيطرة

في منتصف شهر حزيران/ يونيو 2025، أصدرت وزارة التربية السورية تعميماً موجهاً إلى مديرياتها في مختلف المحافظات، من دمشق وريفها وصولاً إلى إدلب ودير الزور والحسكة. وجاء التعميم الذي استند إلى المرسوم التشريعي رقم 55 لعام 2004 والبلاغ الوزاري رقم 543 ليحدد السقوف الرسمية للأقساط في المدارس الخاصة، بعد تزايد شكاوى أصحاب هذه المدارس من ارتفاع تكاليف المحروقات وأجور النقل ورواتب المعلمين.

 

وبحسب التعميم، فإن الوزارة اعتمدت 4 فئات لتصنيف المدارس الخاصة، مع تحديد أقساط سنوية تختلف بحسب المرحلة التعليمية. فبالنسبة إلى رياض الأطفال تراوحت الأقساط بين 75 ألف و350 ألف ليرة سورية، بينما حُددت أقساط التعليم الأساسي ما قبل الصف الثالث ما بين 100 ألف و250 ألف ليرة، في حين تراوحت أقساط المرحلة المتوسطة (التعليم الأساسي الثالث) بين 200 ألف و600 ألف ليرة، أما المرحلة الثانوية فقد وضعت لها الوزارة سقفاً أعلى عند 400 ألف ليرة سورية فقط.

 

ولم يتوقف التعميم عند الأقساط الأساسية، بل نصّ أيضاً على تحديد رسوم إضافية وفق ما يُسمى بـ”قيمة النقطة”، حيث قُدرت بنحو 15 ألف ليرة لرياض الأطفال، و20 ألفاً للتعليم الأساسي المبكر، و25 ألفاً للمرحلة المتوسطة، و30 ألفاً للمرحلة الثانوية. كما شدد على أن أجور النقل يجب أن تُحدد مسبقاً قبل بدء التسجيل، وألا يُسمح برفعها أثناء العام الدراسي إلا إذا صدرت قرارات رسمية بزيادة أسعار المحروقات.

 

وطالبت الوزارة المدارس الخاصة بإعلان هذه الأقساط بشكل واضح وبارز في لوحاتها الداخلية، محذرة من اتخاذ “إجراءات قانونية صارمة” بحق أي مدرسة تخالف التعليمات. كما ألغت جميع الموافقات السابقة المتعلقة بتحديد الأقساط، لتصبح هذه الجداول الجديدة المرجع الوحيد المعتمد.

 

بين التعميم الرسمي للوزارة والواقع

رغم وضوح التعميم وإعلانه حرص الوزارة على “مراعاة الظروف الراهنة”، يختلف الواقع تماماً. فالأقساط التي حددتها الوزارة  والتي تتراوح بين 75 ألفاً و600 ألف ليرة في أقصاها لا تتناسب إطلاقاً مع الأسعار الفعلية التي تفرضها المدارس الخاصة في دمشق، حيث يدفع الأهالي ما بين 10 إلى 40 ضعف هذه المبالغ، أي ما يعادل مئات أو حتى آلاف الدولارات سنوياً، تحت مسميات مختلفة مثل “نشاطات” أو “دروس تقوية” أو “خدمات نقل”.

 

 

المدارس الخاصة بعد سقوط النظام

مدير إحدى المدارس الخاصة في منطقة المزة رفض الكشف عن اسمه أوضح لـ “سطور” أن: “الأقساط انخفضت بنسبة 30 إلى 40% مقارنة بفترة حكم بشار الأسد، لكن ما زالت مرتفعة مقارنة بالقدرة الشرائية الحالية. ومع ذلك، فإن هذه المدارس تقدم جودة عالية من خلال المناهج الحديثة، تعليم اللغات، الحساب الذهني، والنشاطات التي تنمي مهارات الطالب”.

 

وأشار المدير إلى أن عدداً كبيراً من الضباط والمسؤولين في النظام السابق كانوا يستفيدون من حصص في المدارس الخاصة بشكل غير مباشر عبر أسماء وهمية أو وكلاء من مؤسسات حكومية. وهو ما يفسر استفحال الفساد في قطاع التعليم آنذاك، حيث كانت الامتيازات تمنح للنخب على حساب عامة المواطنين.

 

 

شهادات من عائلات مسحوقة

على الطرف الآخر، هناك عائلات كثيرة لا تملك أي خيار سوى المدارس الحكومية. عائشة مصطو، وهي نازحة من إدلب تقيم في منطقة السيدة زينب منذ 17 عاماً، تقول لـ “سطور”: “ابنتي كانت متفوقة في دراستها لكنها رسبت في الصف التاسع هذه السنة. طلبت مني أكثر من مرة أن أسجّلها في مدرسة خاصة، لكن الوضع المعيشي لا يسمح. زوجي يعمل بائع خضار، وابني في محل معجنات، وأنا أبيع المونة المنزلية، ومع ذلك لا نستطيع أن نغطي مصاريف الحياة اليومية.. فكيف يمكن أن ندفع ملايين للمدارس الخاصة؟ ابنتي ستعيد السنة في التعليم الحكومي، وسنحاول مساعدتها قدر الإمكان”.

 

قصة عائشة تعكس حجم الهوّة المتزايدة بين أحلام الطلاب وأولياء الأمور من جهة، والواقع المعيشي الذي يفرض عليهم التخلّي عن طموحاتهم التعليمية من جهة أخرى.

 

المعلم بين مطرقة الراتب وسندان النزوح إلى القطاع الخاص

إحدى المشكلات الجوهرية التي انعكست على التعليم الحكومي تتمثل في ضعف أجور المعلمين. إذ يتقاضى المعلم في المدارس العامة نحو 1.5 مليون ليرة شهرياً فقط، بينما يحصل معلم المدرسة الخاصة على راتب يتراوح بين 2.5 إلى 4 ملايين ليرة سورية.

هذا الفارق الكبير في الدخل يدفع المعلمين الأكفاء إلى ترك المدارس الحكومية والتوجه نحو القطاع الخاص، أو البحث عن أعمال إضافية خارج مجال التعليم. وهو ما يؤثر بشكل مباشر على مستوى التعليم العام، إذ يفقد الطلاب في المدارس الحكومية فرصة الاستفادة من معلمين مؤهلين يضطرون لمغادرة القطاع العام بحثاً عن لقمة العيش.

 

 

بين “التعليم للجميع” و”التعليم لمن يستطيع الدفع”

النتيجة المباشرة لهذه المعادلة أن التعليم في دمشق ومعظم المحافظات السورية التي كانت سابقاً تحت سيطرة نظام بشار الأسد بدأ ينقسم إلى طبقتين: تعليم خاص عالي الجودة، لكنه محصور في فئة صغيرة قادرة على دفع الأقساط، وتعليم عام متاح للجميع، لكنه يعاني من ضعف البنية التحتية، وقلة الكوادر.

هذا الانقسام يُهدد مبدأ “تكافؤ الفرص” الذي يُفترض أن يكون حجر الأساس في أي نظام تعليمي. فبدلاً من أن يكون التعليم أداة لردم الهوة الطبقية، أصبح اليوم عاملاً في تعميقها.

من خلال متابعة هذه الشهادات، يتضح أن المدارس الخاصة في دمشق باتت خارج نطاق قدرة معظم السوريين، في وقت تتدهور فيه أوضاع المدارس الحكومية بشكل مقلق. هذا الواقع يجعل من التعليم الجيد امتيازاً طبقياً، وليس حقاً عاماً متاحاً للجميع.

إن استمرار هذه الفجوة يهدد مستقبل أجيال كاملة، ويزيد من شعور المواطنين باللاعدالة الاجتماعية. ففي حين تُنفق بعض العائلات ملايين الليرات على تعليم أبنائها في بيئة متطورة، يُحرم آخرون من أساسيات التعليم الجيد لمجرد أنهم ولدوا في ظروف معيشية أصعب.

 

إن إصلاح التعليم في سوريا بعد سقوط النظام يجب أن يكون أولوية قصوى، تبدأ من تحسين رواتب المعلمين في المدارس الحكومية، وتطوير المناهج، وضمان أن تكون المدارس العامة قادرة على المنافسة مع القطاع الخاص. فلا يمكن لأي بلد أن ينهض ما لم يكن التعليم فيه حقاً مكفولاً للجميع، لا امتيازاً لمن يملك المال فقط.

شارك

مقالات ذات صلة