مشاركات سوريا
بوجه شاحب وعينين مليئتين بالخوف، تصرخ طفلة صغيرة، “عمو أنا عايشة.. أنا عايشة”، صرخة تختصر مجزرة الكيماوي، وتكذّب كل من ادعى أنها مجرد تمثيلية، لم تكن مشهداً مصطنعاً ولا تمثيلاً كما حاول البعض الترويج، بل محاولة بريئة من طفلة عائدة من الموت لتقول للعالم إن الحقيقة لا يمكن إخفاؤها.
اليوم، وبعد مرور 12 عاماً على الهجوم الكيماوي الذي ارتكبه النظام السوري البائد في ريف دمشق بتاريخ 21 آب/ أغسطس 2013، والذي أودى بحياة أكثر من ألف مدني، بينهم مئات الأطفال والنساء الذين اختنقوا داخل منازلهم بصمت، ما تزال الذاكرة مثقلة بالموت والرعب.
بعض الشهود يتجنبون الحديث عن تفاصيل تلك الليلة المروعة خشية استعادة الألم، بينما يصر آخرون على تكرار روايتهم عند كل ذكرى حتى لا “تختنق الحقيقة” كما اختنق الضحايا.
وفي العودة إلى يوم المجزرة، تحدث موقع “سطور” مع ناجين ومسعفين عاشوا تلك اللحظات، ورأوا بأعينهم كيف غطى الغاز السام سماء الغوطة وحوّل شوارعها إلى مقابر جماعية.
كثيرة هي الشهادات التي حاولت نقل حجم المأساة، وكل رواية جديدة تزيد المشهد ألماً على كل من يسمعها ويستعيدها.
عند الساعة الثانية بعد منتصف الليل، بدأ التعميم عبر أجهزة اللاسلكي بأن النظام قصف منطقة المزرعة في مدينة زملكا، سارع خالد محي الدين، أحد أبناء المنطقة، لإسعاف المصابين، لكن سرعان ما نصحه أحد أصدقائه بالاطمئنان على عائلته، ليرفض في البداية، ظناً أن القصف بعيد عن حارته، لكنه ما إن وصل إلى مدخل البناء حتى صدم من المشهد، 3 من أفراد عائلته ملقون عند الباب الرئيسي، وقد حاولوا الهرب لكن الغاز سبقهم.
شرح خالد لـ”سطور”، “دخلت الحارة أصرخ باسم إخوتي ووالدي، لم يجبني أحد، شعرت بالخطر وركضت إلى مدخل البناء، وهناك رأيت عائلتي ممددة على الأرض، لم أستوعب أنني خلال دقائق قليلة سأفقد 34 شخصاً من أقربائي، وصلت إليهم لكن جميعهم كانوا قد فارقوا الحياة، البقاء وحيداً دون سند خلال لحظات.. شيء لا يُحتمل”.
مشهد خالد ليس حالة فردية، بل صورة مكررة لما واجهه كثير من سكان الغوطة تلك الليلة، إذ لم يكن الموت يميز بين رجل وامرأة، أو بين طفل وشيخ.
“ظنوني ميتاً وأنا حي”
المجزرة لم تُصب الضحايا وحدهم، بل طالت حتى المسعفين، لم يكن الإنقاذ حينها مسؤولية الأطباء فقط، بل شارك فيه كل من استطاع الحركة، متجاهلين خطر استنشاق الغاز، كثيرون من الذين حاولوا إنقاذ غيرهم سقطوا بدورهم ضحايا.
المسعف أبو معتز ابن مدينة زملكا، يروي لـ”سطور” تلك اللحظات قائلاً: “وصلت إلى المزرعة لإنقاذ المصابين. كنت أعتقد أنني سأرى جروحاً أو دماء، لكن ما شاهدته كان مختلفاً، أجساد متشنجة، زبد يخرج من الفم، عيون بحدقة ضيقة كالدبوس، واختناق جماعي، كانت صدمة لا تُصدق”.
مع تزايد الإصابات، بدأ أبو معتز يشعر بالتعب، ثم فقد وعيه تدريجياً إذ قال “ظن من حولي أنني فارقت الحياة، فبدؤوا بنقلي مع الشهداء، لم أستطع الكلام أو الحركة، لكنني كنت أسمع كل شيء حيث اقترب أحد أصدقائي مني يبكي ويستغيث بي للنهوض، عندها استطعت تحريك إصبعي بصعوبة، فصرخ أبو معتز عايش ليركضوا ويخلعوا ملابسي ويغسلوا جسدي بالماء كما وضعوا لي السيروم حتى أنجو”.
نجاة أبو معتز كانت معجزة صغيرة وسط بحر الموت، لكنها تكشف أيضاً كيف تحولت فرق الإنقاذ إلى ضحايا محتملين مع كل محاولة إسعاف، فغاز السارين كان ينتقل بسهولة عبر الملابس والهواء.
المجزرة التي ارتكبت في الغوطتين الشرقية والغربية عبر 4 ضربات كيماوية متزامنة، اعتُبرت الأكبر من نوعها في تاريخ سوريا.
الشبكة السورية لحقوق الإنسان وثّقت في تقريرها الصادر اليوم، في الذكرى الثانية عشرة، مقتل 1144 شخصاً اختناقاً، أي ما يعادل نحو 76% من إجمالي ضحايا الأسلحة الكيميائية التي استخدمها النظام بين كانون الأول/ ديسمبر 2012 وأيار/ مايو 2019، كما سُجّلت إصابة نحو 5935 شخصاً بأعراض تنفسية واختناقات.
لكن الأرقام الموثقة لا تعكس حجم الكارثة كاملاً، أبو معتز، الذي كان مسعفاً وقتها، يؤكد أن العدد الحقيقي أكبر بكثير، مشيراً إلى أنه “حتى اليوم نسمع عن جثامين دفنت خارج الغوطة في أماكن مثل دوما وعين ترما وحمورية، المستشفيات والمقابر لم تكن تتسع للضحايا، الحقيقة أن ما جرى يتجاوز كل الأرقام”.
الغاز المحرم دولياً لم يقتل ضحاياه بالانفجار أو الحطام، بل بالصمت، آلاف المدنيين توفوا داخل منازلهم بلا ضجيج، بلا صوت، وكأن الحياة انطفأت فجأة في الغوطة تلك الليلة، لم يكن هناك وقت للوداع، ولا مجال لدفن يليق بالضحايا، كان المشهد أقرب إلى موت جماعي صامت، لا ينساه من رآه.
بعد 12 عاماً، تبقى مجزرة الغوطة واحدة من أفظع جرائم الحرب في سوريا، جريمة لم يُحاسب مرتكبوها بعد، فيما يستمر الناجون وأصوات الضحايا في تذكير العالم بأن الموت بالغاز لا يُمحى من الذاكرة، وأن الحقيقة لا يجب أن تختنق بالصمت.



