سياسة

كيف تُحذّر أوروبا الأفارقة من الصين.. بينما تعيش على استثماراتها؟

أغسطس 20, 2025

كيف تُحذّر أوروبا الأفارقة من الصين.. بينما تعيش على استثماراتها؟

منذ سنوات، يملأ الخطاب الغربي فضاءات الإعلام والمنتديات الدوليّة بالتحذيرات من “الخطر الصيني” في أفريقيا. فالدول الأوروبيّة وأمريكا تنصح الأفارقة، بل تحذّرهم، من الارتماء في أحضان بكين، تحت شعاراتٍ مثيرة مثل: «لا نغادر سيّدًا لنخضع لآخر». لكن المفارقة أنّ هذا التحذير يصدر في وقتٍ تُعمِّق فيه فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا شراكاتها الاقتصاديّة مع الصين، وتفتح أبوابها على مصاريعها للاستثمارات والشركات والطلاب الصينيين. وهنا يبرز السؤال الذي يفرض نفسه: لماذا يُسمح لأوروبا بما يُمنع على أفريقيا؟

 

أوروبا تستفيد من الصين بلا حرج

صار معلومًا للجميع، أنّ الصين أضحت الشريك التجاريّ الأكبر للاتحاد الأوروبيّ في مجال السلع منذ عام 2020، متجاوزةً الولايات المتحدة. كما أنّ أوروبا نفسها تمثّل الشريك التجاري الأول للصين، ما يجعل الطرفين في علاقة تبادليّة متينة. تشير الأرقام إلى أنّ أكثر من 20% من وارداتِ أوروبا تأتي من الصين، تشمل الإلكترونيات، والآلات، والمواد الكيميائية، والدوائية. أيّ أنّ أوروبا تعتمد اعتمادًا جوهريًّا على الصين في حياتها الاقتصاديّة اليوميّة.

تُعدّ فرنسا تحديدًا نموذجًا صارخًا لهذه العلاقة. ففي قطاع الطاقة، تتشارك شركة توتال إنرجي الفرنسية مع عملاق النفط الصينيّ ساينوبك في تشغيل مصافٍ للنفط في فرنسا. بل ذهبت الشراكة أبعد: ففي مارس 2024 أعلنت الشركتان عن مشروع لإنتاج وقود طيران مُستدام، باستخدام تقنية صينيّة متقدّمة تسمى SRJET، بينما تقتصر مساهمة فرنسا على خبرتها في مجال التوزيع. أيّ أنّ التقنية ملك للصين، وفرنسا تتحوّل إلى وكيل توزيع!

وفي مجال الأدوية، تسيطر الصين على ما يقرب من 80–90% من المواد الفعالة المستخدمة عالميًّا في صناعة العقاقير، بما فيها المضادات الحيويّة. كثير من الأدوية التي تُباع في الصيدليات الأفريقيّة على أنّها “فرنسية” الصنع، مصدرها الحقيقيّ مصانع صينيّة. فدواء يُباع في أفريقيا بألف فرنك إفريقي لا تتجاوز كُلفته في الصين عشرة فرنكات. ورغم وضوح هذه الحقيقة، يُمنع الأفارقة من التعامل المباشر مع بكين، بينما لا تجد باريس وبروكسل أيّ حرجٍ في الاعتماد الكامل على المصانع الصينية.

 

الغزل الفرنسي للصين: اقتصاد بعبارات رومانسية

مَن يراجع تاريخ العلاقات الفرنسيّة–الصينيّة في العقد الماضي يكتشف حجم الغزل السياسيّ والاقتصاديّ بين الطرفين. ففي يوليو 2015، وأثناء زيارة رئيس الوزراء الصيني لي كه تشيانغ إلى تولوز، وقف مانويل فالس (رئيس وزراء فرنسا آنذاك) وإيمانويل ماكرون (وزير الاقتصاد حينها) يطلقان عبارات تشبه عروض الحبّ العاطفي. قال فالس حينها: “الرحلة الجويّة فرنسا–الصين لها مستقبل ينظر إليه الجميع بغيرة”. وردّ عليه نظيره الصينيّ قائلًا: “يجمع الفرنسيين والصينيين حبّ المطبخ: براغماتية الصينيين ورومانسية الفرنسيين.”.

لكن خلف هذه العبارات الحالمة، كان هناك اقتصادٌ بارد: إذْ وقّعت الصين على صفقة لشراء 75 طائرة إيرباص A330، وحضر أكثر من 200 رجل أعمال صينيّ لتوقيع أكثر من 20 اتفاقية شراكة. بل وصل الأمر إلى تأسيس غرفة تجارة وصناعة صينية–فرنسية في باريس، وإلى خطّ ائتمان بقيمة مليار يورو من بنك الصين الصناعيّ والتجاريّ لدعم الشركات الفرنسية الراغبة في دخول السوق الصينيّة.

فليتخيل القارئ الأفريقي المشهد معكوسًا: لو دعا رئيس وزراء الكاميرون نظيره الصينيّ إلى مدينة بافوسام وأقنعه بتمويل رجال الأعمال الكاميرونيين بمليارات الدولارات لفتح مشاريع في الصين، لقامت الدنيا في الصحف الغربية عن “الخطر الصيني”! أمّا في أوروبا فهو تعاونٌ طبيعيّ ومرغوب.

لا يقتصر التعاون على الاقتصاد الصلب. ففي سبتمبر 2014، نشرت صحيفة ليزيكو تقريرًا بعنوان: “حين تغازل فرنسا الطلاب الصينيين”. الحكومة الفرنسيّة وضعت هدفًا واضحًا: استقطاب 80 ألف طالب صيني بحلول 2020، وتحويلهم لاحقًا إلى “سفراء محبّة لفرنسا” داخل الصين. وبالفعل امتلأت الجامعات الفرنسية – من ليون إلى ليل وكليرمون فيران – بالطلاب الصينيين، الذين يدرسون في المدارس العليا للإدارة والاقتصاد والسياسة. لكن حين اقترح أحد الخبراء في الكاميرون فكرة استقبال ألف طالب صينيّ سنويًّا لتعلم الإنجليزية في جامعات محليّة، وُوجه الاقتراح بالرفض ووُصف بأنّه “ميل مؤيد للصين”! لماذا يُسمح لفرنسا بما يُحرَّم على النيجر أو السنغال مثلًا؟

 

ألمانيا وإيطاليا وبريطانيا: الوجه الأوروبي ذاته

فرنسا ليست وحدها. فاقتصاد ألمانيا –الأقوى أوروبيًّا– يعتمد على السوق الصينيّة بشكلٍ بالغ، خاصّة في قطاع السيارات الفاخرة والآلات الصناعيّة. شركات مثل فولكسفاغن وبي إم دبليو ومرسيدس تحقق في الصين نسبًا ضخمة من مبيعاتها وأرباحها، وقد ضغطت مرارًا على برلين للحفاظ على علاقات جيّدة مع بكين. إيطاليا من جهتها وقّعت في 2019 مذكرة تفاهم للانضمام إلى مبادرة الحزام والطريق، لتطوير موانئها واستقطاب الاستثمارات الصينية. ورغم أنّها انسحبت تحت ضغطٍ أوروبيّ وأمريكيّ لاحقًا، فإنّ التجربة أظهرت أنّ دول أوروبا الجنوبيّة تبحث عن منافذ اقتصادية مع الصين دون تردد.

أمّا بريطانيا، فقد استقبلت استثمارات صينيّة بمليارات في مجالات الطاقة النووية (مشروع هينكلي بوينت) والبنية التحتية، فضلًا عن عشرات الآلاف من الطلاب الصينيين الذين يساهمون في تمويل جامعاتها. ومع ذلك، لا يصف أحد في لندن هؤلاء بأنّهم “غزاة”، بل يعتبرهم مصدر قوة. بينما تنفتح أوروبا بلا حرج على الصين، تستمر في إلقاء محاضراتها على الأفارقة عن مخاطر “الاستعمار الجديد”. وزيرة الخارجيّة الأمريكيّة السابقة هيلاري كلينتون قالت بوضوحٍ في زامبيا عام 2011: “لا نريد رؤية استعمار جديد في أفريقيا”، في إشارة واضحة إلى الصين. ومنذ ذلك الحين، صار كلّ مشروعٍ صينيّ في أفريقيا – من خطّ سكة حديد إلى ميناء – يُوصف بأنّه “فخّ ديون” أو “حصان طروادة”.

 

خطاب الغرب لأفريقيا: استعمار جديد؟

أظهرت الدراسات المستقلة -التي راجعتها أثناء إعدادي للمقال- أنّ معظم ديون أفريقيا ليست للصين، بل للمؤسسات الغربيّة وصناديق النقد والبنوك الأوروبية. ومع ذلك يُصرّ الخطاب الغربي على تصوير الصين كعدوٍ متربص. وكأن الغرب يخشى على أفريقيا أكثر ممّا يخشى على نفسه! هذا الخطاب ليس جديدًا. فقد أشار فرانز فانون في كتابه “العام الخامس للثورة الجزائريّة” (1959) إلى أنّ فرنسا اعتادت تصوير الشعب الأفريقيّ كعاجزٍ عن إدارة شؤونه، يحتاج دومًا إلى وصيّ يرشده. ويبدو أنّ هذه العقليّة لم تتغير كثيرًا: الغرب اليوم يقول للأفارقة من يحقّ لهم أن يحبّوا ومن يجب أن يتجنبوا. لكنّه لا يُطبِّق المعايير ذاتها على نفسه.

تكشف بعض الأرقام عن حجم التناقض الغربيّ في التعامل مع الصين. ففي سبتمبر 2025، تنازلت فرنسا بهدوءٍ عن أكبر منجم للثوريوم لديها لصالح شركة صينيّة، بعدما عجزت عن تطوير التقنية اللازمة لتكريره بنفسها. المفارقة هنا أنّ باريس، التي تواصل تحذير الدول الأفريقيّة من التعاون مع بكين بدعوى الحفاظ على مواردها، لم تتردد هي ذاتها في تسليم أحد أهم مواردها الاستراتيجية للصينيين.


أمّا على مستوى الاستثمارات، فقد أقرّ وزير الاقتصاد الفرنسي برونو لو مير في يوليو 2023 بأنّ الاستثمارات الصينيّة المباشرة في فرنسا أسهمت في خلق خمسين ألف وظيفة. وهذا الرقم وحده كفيل بتوضيح كيف ترى باريس في الشريك الصينيّ فرصة لتعزيز اقتصادها وخلق فرص عمل لشبابها، بينما تُصَوِّرُ التعاون نفسه في أفريقيا كتهديدٍ أو استعمارٍ جديد.

وتتضح المفارقة أكثر في ملف الهجرة والإقامة. إذ يبلغ عدد الصينيين المقيمين في فرنسا نحو 750 ألف شخص، وهو تقريبًا نفس عدد الصينيين المنتشرين في كامل القارة الأفريقية التي تضم أكثر من مليار نسمة و54 دولة. ومع ذلك، لا يُقدَّم وجود الصينيين في باريس أو مرسيليا على أنّه “غزو” أو “استعمار”، بل يُعتبر جزءًا طبيعيًّا من التبادل الاقتصادي والثقافي. بينما يُصوَّر وجودهم في مدن مثل لاغوس أو نيروبي كخطرٍ داهم على السيادة الأفريقية.

 

خاتمة: ما يزعج الغرب ليس “خطر الصين” على أفريقيا، بل خطر الصين على نفوذ الغرب التقليديّ في أفريقيا. فحين نرى باريس وبرلين تستجديان الاستثمارات الصينيّة بلا حرج، بينما يُمنع على باماكو ونيروبي أن تفعلا الشيء نفسه، يتضح أنّ المسألة ليست أخلاقيّة، بل جيوسياسية. ما يزعجني في جميع ما سبق -على المستوى الشخصي- هو بروز مثقفين وقنوات إعلاميّة أفريقيّة، بل مرشّحين رئاسيين في أفريقيا، تصرخ في كلّ محفلٍ على أنّ من مشاريعها الانتخابيّة وقف الزحف الصينيّ تجاه أفريقيا. لا يقرأ أيّ مراقب مثل هذه التصريحات إلا ويخرج بقناعةٍ أنّ لدينا في أفريقيا قيادات أقلّ ما يقال عنهم: سذّج في أبجديّات الجيوبوليتيك. أمّا الغرب، فعليه أن يعترف أنّ لغة التخويف لم تعد تقنع أحدًا. فمن الأفارقة من يعرفون أنّ الاستعمار الحقيقي انتهى شكلًا، لكن وصايته الفكريّة ما زالت حاضرة في الخطاب الغربي – خطاب ينهار يومًا بعد يومٍ أمام وعي شعوب قارة تبحث عن نهضتها بشروطها هي، أمّا الإعلام الأفريقيّ المُوالي للغرب، فنعلم جميعًا من يمولّه والغرض من ورائه.

 

شارك

مقالات ذات صلة