آراء

ما بعد لقاء البرهان وبولس.. السودان يملك (الجزرة) فهل ترفع أمريكا (العصا)!

أغسطس 18, 2025

ما بعد لقاء البرهان وبولس.. السودان يملك (الجزرة) فهل ترفع أمريكا (العصا)!

في نهاية يوليو الماضي، كتبتُ مقالًا بعنوان: (القنوات الخلفيّة: أتون الحرب في السودان بين القتال والحوار)، تناولتُ فيه القنوات السريّة للحوار والسلام، خاصّة في حالات انعدام الثقة العميق بين الأطراف، أو عندما يعارض مؤيدو أيّ من الطرفين بشدة إجراء محادثات علنيّة أثناء استمرار الصراع.

بعد عشرة أيام من نشر المقال، عُقد لقاءٌ سريّ في زيورخ السويسريّة يوم الإثنين 11 أغسطس 2025، بين رئيس مجلس السيادة السوداني، القائد العام للقوات المسلّحة، الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، وكبير مستشاري الرئيس الأمريكي، مسعد بولس. يمثل هذا اللقاء نقطة تحوّل محتملة في الدبلوماسيّة الأمريكيّة تجاه الحرب في السودان.

اللقاء، الذي تمّ بطلبٍ أمريكي وتيسير قطري، يأتي في سياق حرب العدوان على السودان الدائرة منذ أبريل 2023 بين القوات المسلحة السودانيّة وميليشيا الدعم السريع المتمرّدة بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي). أدّت هذه الحرب إلى مقتل عشرات الآلاف، ونزوح ملايين، وتسبّبت في أزمةٍ إنسانيّة حادّة، خاصّة في دارفور والفاشر، حيث تفرض الميليشيا حصارًا دمويًّا أدى إلى مجاعة في دارفور.

تشير دلالات سياسيّة إلى تغيير في النهج الأمريكيّ حيال الحرب في السودان، ورغبة إدارة الرئيس دونالد ترامب في تبنّي سياسة مغايرة لنهج إدارة بايدن السابقة، خاصّة سياسات مولي فيي، مساعدة وزير الخارجية السابقة للشؤون الأفريقية، التي اتُهمت بتعقيد العلاقات مع السودان.

مسعد بولس، كبير مستشاري ترامب للشؤون العربية والشرق أوسطيّة والأفريقيّة، والمقرب منه عائليًّا، أعرب عن حرص واشنطن على بناء علاقات مباشرة مع السودان، مع التركيز على مكافحة الإرهاب وتعزيز الأمن الإقليمي خصوصًا في البحر الأحمر. يعكس هذا تحوّلًا نحو دعم أكبر لحكومة البرهان كممثل للشرعيّة الحالية (مجلس السيادة الانتقالي ومجلس الوزراء برئاسة كامل إدريس)، مع رفضٍ صريح لوجود الميليشيا في المستقبل. وقد أكّد البرهان وحدة القوات المسلّحة السودانيّة وحركات الكفاح في دارفور والمقاومة الشعبيّة ضد المخطط الإقليميّ لتقسيم السودان، مشدّدًا على أنّ السلام يتطلب وقف التدخلات الخارجية.

يُعدّ هذا اللقاء الأعلى مستوى منذ بداية الحرب، ويأتي بعد فشل مباحثات إقليميّة متعددة، حيث ساهمت إدارة بايدن في عرقلتها بتغاضيها عن الدور المحوري لدولة الإمارات في تأجيج الصراع. ويشير اللقاء إلى محاولةٍ أمريكيّة لإعادة صياغة المفاوضات بعيدًا عن الآليات الدوليّة السابقة. وقد أكّد بولس أنّ واشنطن لا تسعى لفرض حلول خارجية، بل لحلّ يجمع كل السودانيين.

ركّز البرهان في المباحثات على استحالة وجود مستقبل لميليشيا الدعم السريع في السودان، داعيًا إلى تفكيكها، تسريح عناصرها، ومحاكمة قادتها بتهم جرائم حرب. وقدم ملفًا أمنيًّا شاملًا يوثق تورط ثماني عواصم إقليميّة ودوليّة، بما في ذلك الإمارات العربية المتحدة بشكلٍ صريح، في دعم الميليشيا بالسلاح، التمويل، التدريب، والمرتزقة من دول أفريقيّة وعالمّية. يشمل الملف مسارات رحلات جويّة تحمل أسلحة وإمدادات، ويصف الحرب كعدوانٍ إقليميّ يهدف إلى تقسيم السودان ونهب ثرواته.


في اليوم التالي للقاء زيورخ، أدان بولس عبر حسابه على منصة إكس مقتل مدنيين في مخيم أبو شوك بالفاشر على يد الميليشيا، مطالبًا بوصول المساعدات الإنسانيّة دون عوائق وتوفير ممر آمن للفارين. وغرّد مرة أخرى يوم الجمعة الماضي: “نشعر بالفزع إزاء التقارير التي تتحدث عن الوضع المروع في الفاشر. يجب على قوات الدعم السريع اتخاذ إجراءات عاجلة لضمان وصول المساعدات إلى المتضررين من المجاعة في الفاشر ومخيمات النازحين المحيطة بها”.

يعزّز هذا الضغط الأمريكي لتصنيف الدعم السريع كمنظمةٍ إرهابيّة، حيث تكشف المعلومات عن جهود مكثفة في الكونغرس الأمريكيّ لذلك، مع إمكانية تصعيد الملف إلى الأمم المتحدة إذا استمر الحصار على الفاشر. كما رفض أعضاء مجلس الأمن إقامة سلطة موازية في السودان من قبل الميليشيا وظهيرها السياسي.

من المهم تسليط الضوء على أنّ نجاح لقاء البرهان وبولس جاء بتيسير قطري، واستضافته سويسرا. واختيار زيورخ لم يكن عشوائيًّا؛ فالسويد تُعدّ مركزًا تاريخيًّا للدبلوماسيّة، كما في مؤتمرات لوزان ومونترو قبل أكثر من قرن، ومؤخرًا مؤتمر السلام الروسيّ-الأوكراني. هذا يمنح اللقاء طابعًا محايدًا بعيدًا عن التدخلات الإقليمية.

كما يعكس التيسير القطري نفوذ الدوحة الدبلوماسي في المنطقة، خاصّة بعد دورها في مباحثات مثل غزّة وأفغانستان. وتُعدّ الوساطة الخارجيّة ركيزةً أساسيّة في السياسة الخارجيّة القطريّة، وقد أكسبتها مكانةً عالميّة مرموقة.

قطر كانت الوسيط الأكبر في سلام الكونغو ورواندا، حيث فاجأ أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد، المراقبين الدوليّين باستضافته رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية فيليكس تشيسكيدي ورئيس رواندا بول كاغامي في مارس الماضي، في أول لقاء لهما منذ اندلاع الصراع أواخر العام الماضي. وفي بيانٍ مشترك، أعرب الرئيسان عن شكرهما لدولة قطر وأميرها على تنظيم هذا الاجتماع المثمر الذي أسهم في بناء الثقة بين الدولتين، مؤكّدَين التزامهما بمستقبل آمن ومستقر لجمهورية الكونغو الديمقراطيّة والمنطقة. وقد أدار مسعد بولس عملية السلام مع قطر بتفويض كامل من الرئيس ترامب. 


هذا النجاح دفع ترامب لتفويض بولس بحلّ الأزمة السودانيّة، مستفيدًا من علاقات الدوحة الوثيقة مع الخرطوم في استضافة مباحثات سلام دارفور، والأواصر السياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة والرياضيّة.

حوافز اقتصاديّة لأمريكا

سلام الكونغو ورواندا، الذي ترعاه قطر، عاد بفوائد اقتصاديّة كبيرة للولايات المتحدة. فقد توصلت الدولتان إلى إطار اتفاق للتعاون الاقتصادي، حيث تُعدّ منطقة شرق الكونغو الغنيّة بالمعادن الحيوية مثل الكولتان والليثيوم ذات أهمية استراتيجية لصناعات التكنولوجيا والطاقة المتجددة. وأفادت الخارجيّة الأمريكيّة بأنّ إطار الاندماج الاقتصادي، الذي تمّ التوقيع عليه بالأحرف الأولى، جزء من اتفاق السلام، يهدف إلى إضفاء الشفافية على سلاسل إمداد المعادن المهمة، ومن المتوقع أن يدخل حيّز التنفيذ بنهاية سبتمبر. 

ستكون الدوحة وواشنطن شريكتين في الشراكات الاقتصادية بين البلدين، مما يضمن توسعًا اقتصاديًّا للكونغو ورواندا يعتمد على الازدهار والتنمية والتكامل، بعيدًا عن شبح الحرب.

التهاب منطقة القرن الأفريقي

يثير التصعيد في منطقة القرن الأفريقي، خاصة الصراع الإثيوبي-الإريتري، قلقًا أمريكيًّا كبيرًا، حيث تلوح في الأفق حرب طاحنة بينهما. كان السودان في الماضي لاعبًا مهمًا في نزع فتيل الأزمات بين أديس أبابا وأسمرا. لذلك، طرح الوفد الأمريكي ضرورى إحياء ملف التعاون الأمني الإقليمي المشترك بين الخرطوم وواشنطن. حيث أشاد الوفد بالتعاون التاريخي مع السودان في مكافحة الإرهاب، الاتجار بالبشر، الهجرة غير النظامية، والمخدرات، ما يعكس أولويات ترامب في الأمن الإقليميّ، خاصة في القرن الأفريقيّ وشرق أفريقيا.

يُنظر إلى السودان كمحور للاستقرار، ونجاحه في تحقيق السلام داخليًّا وإطفاء الحرائق بين إثيوبيا وإريتريا، قد يقرب ترامب من تحقيق حلمه في نيل جائزة نوبل للسلام.


القراءة المستقبلية

بناءً على هذه المباحثات، يمكن توقع سيناريوهات متعددة لمستقبل الحرب في السودان، مع مراعاة التحديات الراهنة مثل تقاعس الجهود الدولية والأزمة الإنسانيّة:

*دور إيجابي يدفع نحو السلام: قد يؤدي اللقاء إلى خطة سلام أمريكيّة جديدة تركّز على وقف إطلاق النار، تقديم المساعدات، وفتح ممرّات آمنة، خاصة في الفاشر وجنوب كردفان. إذا نجح الضغط الأمريكي على الدول الداعمة للميليشيا، مثل الإمارات، سيضعف الميليشيا عسكريًّا، مما يمهد لتفكيكها ومحاكمة قادتها. 

والدعم الأمريكي للتحوّل الديمقراطي الشامل، مع استثناء المتهمين جنائيًّا دوليًّا، قد يعزّز شرعية حكومة البرهان، ويفتح الباب لانتخابات انتقاليّة، مما يعيد السودان إلى التعاون الدوليّ، مثل رفع الديون وإزالة العقوبات المتبقية، ويساعد في إعادة الإعمار.

*دور سلبي يدفع للتصعيد: إذا رفضت الميليشيا الضغوط، خاصة مع أنباء عن لقاء محتمل لبولس مع حميدتي، أو إذا استمر دعم الإمارات ودول أفريقيّة أخرى للميليشيا بالتمويل والسلاح، فقد تطول الحرب، مما يهدّد بتقسيم السودان ومجاعة واسعة في دارفور، كما حذّرت الأمم المتحدة.


قد تفشل الجهود الأمريكية إذا لم تدعمها آليات تنفيذية قوية، خاصة مع تاريخ فشل المباحثات السابقة.

*إقليميًّا: قد يقلل اللقاء من نفوذ الإمارات في السودان، مع تعزيز دور قطر، السعودية، مصر، وتركيا كوسطاء.

*دوليًّا: قد يشجع الكونغرس الأمريكي على فرض عقوبات على داعمي الميليشيا، مما يغيّر توازن القوى في القرن الأفريقيّ.

في ظلّ التقاعس الدوليّ، يظلّ الحلّ (سودانيًّا خالصًا) كما أكد بولس، لكن ذلك يتطلب جبهة مدنية موحدة تُنحي الخلافات جانبًا، خاصّة مع الأطماع الكبيرة والخطيرة على السودان، التي تحتاج إلى صف قوي يجنب البلاد الحريق.


ختامًا، يمثّل هذا اللقاء فرصة لإنهاء الصراع، لكنّه يعتمد على جدّية الضغط الأمريكيّ والإقليميّ. إذا نجح، قد يعود السودان إلى مسار التحوّل الديمقراطي؛ وإذا فشل، فقد تتفاقم الأزمة الإنسانيّة والإقليميّة، مما يلهب المنطقة بأكملها. ومن المهم التأكيد على أن الحوافز الاقتصاديّة تشكّل ورقة رابحة يجب أن يلعب بها السودان لصالحه. فالمعادن (اليورانيوم والذهب وغيرهما)، المياه، الأراضي الخصبة، والموقع الجيواستراتيجي، تمكّن السودان من تقديم حوافز لترامب، الذي يؤمن بأنّ المصالح التجارية والشراكات الذكية مقدّمة على كلّ شيء. ففي المستقبل، لن يكون نفط أبو ظبي هو ما يتنافس عليه العالم، بل الماء والغذاء الموجودان في السودان منذ بدء الخلق.

شارك

مقالات ذات صلة