مجتمع
تتعالى حالياً صيحات النفير والتعبئة العشائرية عبر مبادرات فردية أو تجمعات عشائرية، بعضها يسعى للاستعراض الشخصي، وآخرون يسعون للتموضع ضمن النظام الجديد في محاولة وصولية لبعض المنتفعين، على حساب الدم السوري والنسيج الاجتماعي المرهق. الوضع السوري اليوم ليس أسطورة تُروى، ولا مسرحاً للفروسية الخيالية. إنه مشهد هش ومعقد، متشابك كالخيوط الرقيقة للعنكبوت، متخم بالألم والدماء، حيث تتقاطع المصالح المحلية والإقليمية والدولية وتتراكم الأزمات على المواطنين الذين يكادون يفقدون توازنهم تحت وطأة الضغوط المستمرة. في هذا الواقع، لا مجال للمغامرات الفردية على طريقة “دون كيشوت”، الذي يلوّح بسيفه في مواجهة طواحين الهواء. أي محاولة لإثبات البطولة الفردية ليست سوى مقامرة بمصير الناس، تهدد الأمان البسيط وتضاعف حجم المعاناة اليومية. فالمخاطر لا تقتصر على الأطراف العسكرية أو المسلحين، بل تمتد إلى أي قرار يُتخذ خارج الإطار المؤسسي للدولة، لأنه يفتح أبواب الفوضى ويحوّل الشوارع إلى ساحات لتجارب قد تدمر ما تبقى من النسيج الاجتماعي.
أي إعلان للنفير العام من خارج المؤسسة العسكرية ليس مجرد فعل عابر، بل تحدٍ صارخ لسلطة الدولة وبذرة فوضى سياسية واجتماعية تهدد المجتمع برمته. هذه الدعوات توهم الناس بأن الخلاص قد يأتي من بندقية بلا قيادة، أو من راية ترفعها مجموعة اعتقدت أنها المخلّص، لكنها في الواقع تزرع الفوضى وتضاعف المخاطر على المدنيين. التجربة السورية علمتنا أن أي عمل عسكري خارج الإطار المؤسسي يتحوّل بسرعة إلى سيل دموي لا يميز بين مدني وجندي، ويكرّس الانقسامات ويطيل دوامة العنف بلا رابح.
والأدهى أن بعض العشائر في الجزيرة السورية تسابق في إصدار بيانات تدعو للنفير العام ومواجهة “قسد”، دون إدراك أن هذه الدعوات لن تجلب سوى الويلات على مناطقهم ومواطنيهم. ما يغفل عنه هؤلاء المتحمسون هو أن مفاوضات حذرة ما تزال قائمة بين الحكومة السورية و”قسد”، وأن الملف شديد التعقيد ويضم مصالح كبرى للأطراف الإقليمية، وعلى رأسها تركيا، التي لا تستطيع اتخاذ أي قرار متسرّع دون مراعاة تعقيدات الملف السوري ومصالح كل القوى المحلية. أي تحرك فردي أو بيانات نفير متسرعة قد تقوض هذه الجهود الدقيقة، وتعيد المنطقة إلى مربع الفوضى والانقسام، بينما الحلول المستدامة تتطلب الصبر والتخطيط المؤسسي والالتزام بمسار المفوضات الرسمي، وليس المبادرات العاطفية أو التحشيد الشعبي خارج الإطار القانوني للدولة.
الحلول الحقيقية لا تأتي من المبادرات الفردية أو الانفعال العشائري، بل من الدولة ومؤسساتها الشرعية، التي وحدها قادرة على وضع خطة منظمة لحماية المواطنين واستعادة الأمن والاستقرار. أي محاولة لتجاوز الدولة تحت شعار “الدفاع عن الأرض” ليست بطولية، بل مقامرة بحياة الناس ومستقبل مناطقهم.
الرقة والحسكة ودير الزور، لا تقل تنوعاً عن باقي الجغرافيا السورية، حيث تعيش فيها عدة مكونات وقوميات، بما في ذلك العرب الغالبية، والأكراد، والآشوريين، والشركس، والتركمان، ومكونات أخرى. هذا التنوع، إلى جانب العمق العشائري، يجعل أي تحرك سياسي أو أمني حساساً للغاية، إذ يمكن لأي خطوة غير محسوبة أن تفجر الانقسامات وتضاعف التوترات.
المناطق الواقعة تحت سيطرة “قسد” تنتظر نتائج الاتفاقات مع الحكومة السورية، التي لم تتحول بعد إلى حلول نافذة على الأرض. سلوك “قسد” في المفاوضات يعكس مزيجاً من التماهي وعدم الوضوح، بما يتيح لها الاستفادة من الوقت لمراجعة حساباتها السياسية والعسكرية وإعادة تشكيل الوقائع على الأرض قبل أي اتفاق شامل. هذا يجعل أي تحرك خارج الإطار الرسمي محفوفاً بالمخاطر ويهدد التوازن الدقيق في المنطقة.
أي مبادرة فردية للنفير العام، مهما بدت وطنية، هي خروج عن الإطار الشرعي للدولة، وسفك دماء السوريين بلا معنى، وتغذية الانقسامات الاجتماعية. التاريخ السوري مليء بالأمثلة التي تظهر أن المبادرات الفردية غالباً ما تزيد التعقيدات، وتربك عمل الحكومة في الملفات الحساسة، كما حدث في السويداء وغيرها من المناطق.
الاستقرار يبدأ من الداخل، من المجتمع المترابط، قبل أن يُسعى إليه في ساحات القتال. كل تحشيد مسلح بلا قيادة وطنية أو استراتيجية واضحة هو وصفة مؤكدة للفوضى الشاملة. دم السوريين أثمن من أن يُستغل في مغامرات شخصية أو سياسية، وكل رصاصة خارج الإطار الرسمي هي رصاصة في قلب الدولة قبل أن تطلق على الخصم.
العقل والانضباط والمنهجية، لا الشعارات أو المبادرات العاطفية، هما السبيل الحقيقي لحماية الوطن وبناء مستقبل مستقر، يحفظ دماء المدنيين ويمنح الأمل لمجتمع يكاد ينهار. ومنطق التحريض على العنف والدعوات إلى الاقتتال يتنافى تماماً مع حكمة العشيرة، التي تعد خط الدفاع الأول ضد الانهيار الاجتماعي وقادرة على احتواء النزاعات قبل أن تتوسع إلى أزمات تهدد المجتمع ككل.
تاريخياً، لعب القادة المحليون دوراً محورياً في ترسيخ الأمن والاستقرار، وضمان التعايش بين المكونات المختلفة. النزاعات العشائرية، رغم غياب مؤسسات الدولة أحياناً، غالباً ما تخضع للتحكيم وضوابط مجتمعية صارمة، ما يؤكد أن الاستقرار الحقيقي يبدأ من المجتمع نفسه قبل أي تدخل خارجي أو تحرك مسلح.
ما يميز الجزيرة السورية هو شبكة العلاقات التاريخية بين مكوناتها المختلفة، التي عززت القيم المجتمعية والتضامن المحلي، وجعلت المجتمعات أكثر قدرة على الصمود أمام التحديات السياسية والأمنية. التمسك بالدور التقليدي للعشائر هو صمام أمان أول ضد الانزلاق نحو الفوضى، ويعكس قدرة المجتمع على حماية نفسه قبل أي تدخل خارجي.
هذا التوازن الاجتماعي، رغم هشاشته، يمثل فرصة حقيقية لتقوية الاستقرار، إذا التزم الجميع بالضوابط المؤسسية والنهج العقلاني، وابتعد عن الانفعالات أو المبادرات الفردية، التي غالباً ما تؤدي إلى نتائج عكسية. الدرس الأساسي أن الاستقرار في الجزيرة السورية لا يُبنى بالسلاح وحده، ولا بالبطولات الفردية، بل بالوعي الجماعي، والانضباط المؤسسي، واحترام القيم المجتمعية، والتخطيط السياسي الدقيق الذي يأخذ بعين الاعتبار تاريخ المنطقة وتعقيداتها القومية والإقليمية.




