مشاركات
كم عمرك؟ا
نظر للسائل مليّا ،ثم أقحمه بسؤال آخر: أي عُمر تقصد؟
نظر إليه الشخص المتسائل بإستغراب هو عُمر واحد الذي يسأل عنه الجميع!
تنهّد الآخر تنهيدة مهمومةقائلا: لم يكن يوما العمر واحد بالنسبة لي.
أدرك أن الجميع يهتم لذاك التاريخ المدون في شهادة الميلاد، لكن واقعيا لم تكن يوما الأرقام هي من تمثّل عُمر إنسان .
سكت المتحدث هنيهنة يستجمع فيه شتات نفسه جرّاء المشاعر والذكريات التي تكالبت عليه الآن، سحب زفرة من هواء الليل المعتم ووجّه نظرة خاطفة لأعين صاحبه السّائل المعلقة به قبل يشيح بصره بعيدا باتجاه أفق السماء ويسترسل في حديثه شاردا وكأنه يحدث نفسه.
عمر الإنسان يا صديقي رهين بمقدار ألم الإنسان، فكم من صبية في عقدها الثاني ورقيا وبلغت العقد الرابع واقعيا، ترهّلت أحلامها وهزُلت طموحاتها وشاخَت أحاسِيسها. وكم من فتى في بداية الثلاثين في تاريخ ميلاده بالأوراق الرسمية ،بينما شارف على عتبة الستّين في عمره المعيشي في الحياة ، فعندما تنظر إليه لا تجد سوى عينان مكحّلتان بسواد الأرق والهم وإذا دقّقت في لون عدسات تلك العيون لاينجلي لك سوى مزيج من القهر وقلة الحيلة ، وماإن ترفع ناظريك هاربا من كمية الألم المتحدة فيهما ،حتى تصطدم بظهر محدودب من كثرة أحمال الحياة المحملة عليه. وكتفين مرتخيتين بقوة الضغظ المستمر عليها ، وإذا ماخفظت رأسك قليلا فإنك تتوه في معنى ابتسامة باهتة تستقبلك فهي خليط بين الأسى والرضى، فتتملك الحيرة وتتساءل داخليا :كيف له القدرة على شق تلك البسمة وحاله على ماهي عليه من كل أنواع البؤس؟
العمر ياصديق يتلخص من عُصارة تجاربنا فوق هذه الأرض، يتشكل من أحزاننا قبل أفراحنا، من خيباتنا قبل انتصاراتنا، من أوجاعنا قبل ابتهاحاتِنا، وليس مجرد أرقام تسطّر في دفتر مغلف بحِبر مفخّم . إنه الألم وحده من يجعلنا نكبر أعواما ضِعف أعوامنا الحقيقية ،الألم الألم ياصديقي من يرغمنا على القفز على سلم السنوات واختصار اللحظات ، غياب أساسيات الحياة البسيطة، والتخلي عن الأحلام المشروعة، والتنازل عن المكملات ، وقبول القليل القليل من الضروريات ،والتغاضي عن الكثير الكثير من المنغّصات والضغوطات فقط لتعيش.
ياصديق عندما يطرق الألم عتبات أقفاصك الصدرية فإن سِنين عمرك تتضاعف بشكل قياسي لا يمكن معه حتى تِعداد تلك السنوات أو تمييز لحظاتها فيما مرّت …أما الوجع فيطفئ أرواحنا ،يُخمِد شعلة الحماس التي كانت تسكن فينا..
وهناك الخذلان الذي يقتلع بذرة الأمل من جذورها.. ولايبقى لك سوى غصات مريرة لا هي تساعدك على ابتلاعِها ولا هي تقبل الانزيّاح عن طريقك،بل تصر على البقاء معك وترغِمك مكرَها على تجرّع حنضَلِها.. وبعد أن كنت على قيد الأمل تتقلص منك ساعات الحلم على حين غفلة.. فتصبح بعدها على قيد الانتظار.. انتظار الاشياء والأشخاص والأماكن أو انتظار لذاك الشيء البعيد جدا منك.. انتظار أن تنتهي كل تلك الآلام والأحاسيس الموجعة.. انتظار أن يتلاشى الحزن من عيناك فقط بعد أن أصبح من ساكنة قلبك، قلبك ذاك الذي مازال يقاوم يحاول التمسك بالصبر والتصَبّر والإصرار..
قلبك الذي لم يطلب الكثير فقط حياة بالأماني التي اختارها بنفسه.. قلبك الذي كل جُرمِه أنه تمرّد عن صورة الحياة المعتادة، وإن كانت الصورة التي اختارها هو لا تناقض دينا ولا عُرفا،فقط تختلف عن اختيارهم ،لاتتوافق مع مسلماتهم.. قلبك الذي رجّح كفّة تلقي الانتقاد المباشر اللاّذِع تارة واللّوم المخفي بين سطور العبارات تارة أخرى ،على أن ينصاع لما لايريد ولايستطيع العيش معه.. قلبك الذي يعرف جيدا ويوقن أنه لايحتمل عيش حياة لاتمثله ولاتنتمي له،بل يدرك الانصيّاع موت بطيء.
لا يعرف كيف يبتسم وهو لايشعر بالبسمة،ولا أن يجامِل ويتعامل بأريحيّة دون أن يكون مرتاحا، ستفضحه ملامحه حتما ،وإن لم يصرّح بذلك علنا..
قلبك الذي فاض به الكتمان وابتلاع الآهات، أصبح باردا جدا..
قلبك تبدّل كثيرا وأصبح ينتفض بأقل الأسباب ،بعد أن كان إسفنجة تمتص كل شيء بداخلها بسكون..
قلبك الذي باتت أتفه الأسباب تهدد بانفجاره..
قلبك ذاك الذي غدا يخيفك أحيانا بتبلّد مشاعره ، ،بقساوته في أوقات ما
قلبك ذاك الذي مازلت تطبطِب عليه وتخبره بأن الغد سيكون أجمل..
قلبك ذاك نفسه الذي بدأ يشك في ذاك الغد الأجمل الذي كنت ولازلت تعِده به منذ سنوات خَلت..
قلبك ذاك نفسه لم يعد حِملا للمزيد من الخيبات والانكسارات ..
فقط يحتاج لشي من الهدوء والسلام.