مشاركات سوريا
الكاتب: علي البرغوث
في زمنٍ تداخلت فيه الجغرافيا بالدم، والهوية بالخوف، برز اسم عبد القادر الصالح كأحد أبرز القادة العسكريين في الثورة السورية، ليس فقط لحنكته القتالية، بل لرمزيته الشعبية التي تجاوزت حدود بلدته الصغيرة إلى وجدان ملايين السوريين.
ولد الصالح عام 1979 في بلدة مارع شمال محافظة حلب، حيث نشأ وسط مجتمع ريفي بسيط، يعمل في تجارة الحبوب والمواد الغذائية. لم يكن يحمل خلفية عسكرية تقليدية، لكنه امتلك ما هو أندر: حسّاً شعبياً، وجرأةً في اتخاذ القرار، وإيماناً عميقاً بعدالة القضية.
مع انطلاق الثورة السورية عام 2011، كان من أوائل المنظمين للمظاهرات السلمية في بلدته، يقود الهتافات، ويواجه الخوف بالابتسامة. لكن مع تصاعد القمع، انتقل إلى العمل المسلح، مؤسساً أولى الكتائب الثورية في الريف الشمالي لحلب، قبل أن يصبح القائد العسكري للواء التوحيد، أحد أكبر
تشكيلات الجيش السوري الحر.
قاد الصالح عمليات عسكرية نوعية ضد قوات النظام السوري، أبرزها معارك السيطرة على مدينة إعزاز، وبلدات الراعي و جرابلس، إضافة إلى اقتحام أحياء حلب الشرقية مثل صلاح الدين والصاخور وسيف الدولة.
كان حضوره في الصفوف الأمامية سمةً دائمة، يشارك مقاتليه في الخنادق، ويخاطبهم بلغة الأب والأخ. لكن دوره لم يقتصر على القتال، بل كان من أبرز مهندسي التكتلات العسكرية، ساعياً لتوحيد الفصائل تحت راية واحدة. شارك في تأسيس المجلس الثوري العسكري في حلب وريفها، وجبهة تحرير سوريا الإسلامية، وكان له دور محوري في تشكيل الهيئة الشرعية التي تولّت إدارة المناطق المحررة.
تميّز الصالح بخطاب سياسي معتدل، يرفض الطائفية، ويؤمن بسوريا متعددة، عادلة، تحفظ حقوق الجميع. في أحد تصريحاته، قال: “الأقليات في سوريا ستعيش حياة أكرم بعد سقوط النظام، ولن يُفرض عليهم شيء بقوة السلاح”. هذا الموقف جعله محل احترام واسع، حتى من خصومه.
ورغم تقاربه مع بعض الفصائل الإسلامية، رفض الصالح الانخراط في الخطاب المتشدد، ورفض الاعتراف بالائتلاف الوطني السوري والحكومة المؤقتة، مطالباً بتشكيل جسم سياسي يعكس تطلعات المقاتلين على الأرض، ضمن إطار إسلامي معتدل.
لم يكن الصالح يسعى للسلطة أو الظهور الإعلامي. في إحدى المقابلات، رفض التصوير قائلاً: “الكاميرات تقتل الإخلاص، دع أعمالنا خالصة لله.” هذا التواضع، إلى جانب شجاعته، جعله رمزاً شعبياً نادراً، يحظى باحترام واسع بين المدنيين والمقاتلين على حد سواء.
في تشرين الثاني/ نوفمبر 2013، استهدفت غارة جوية اجتماعاً لقادة لواء التوحيد في مدرسة المشاة بحلب، أصيب خلالها الصالح بجراح بالغة، نُقل على إثرها إلى مستشفى في غازي عنتاب التركية، حيث فارق الحياة. دُفن في مارع، في قبرٍ كان قد أوصى بحفره بنفسه.
رحيله ترك فراغاً كبيراً في صفوف الثورة، لكنه خلّد صورة القائد الذي لم يتخلَّ عن شعبه، ولم يساوم على مبادئه، ولم يختبئ خلف المكاتب أو الشعارات.
اليوم، وبعد أكثر من عقد على انطلاق الثورة، ما زال اسم عبد القادر الصالح يُذكر كرمزٍ للبسالة والنزاهة، وكقائدٍ خرج من قلب الناس، وعاد إليهم شهيداً. لم يكن مجرد عسكري، بل كان تجسيداً لفكرة: أن الكرامة لا تُشترى، وأن الثورة لا تُقاس بعدد البنادق، بل بعدد القلوب التي تؤمن بها.