مدونات
للكاتب: مصطفى نصار
جريمة اغتيال حقيقة مكتملة الأركان. بدم بارد وقلب لا يعرف غير لغة العنف الإبادي، توجهت إسرائيل لشن غارة جوية غادرة على خيمة الصحفيين، مخلفة بها 5 شهداء وهم الزملاء محمد قريقع، وأنس الشريف، ومحمد نوفل، ومؤمن عليوه، وأخيرًا إبراهيم الظاهر، ما يعني بالضرورة جريمة جديدة غاية في النكران والسفول المخترق لكل أعراف وقوانين البرابرة في الغابات، وبذلك تكون قد حصدت أرواح كل مراسلي غزة من الشمال للجنوب، البالغ عددهم 268، وفقًا لبيانات مكتب الإعلام الحكومي في غزة.
وفي حقيقة الأمر، تعدى الجنون الإبادي في الهجوم المعتمد والممنهج ليصل لحملات مدعومة من المفترض أنها نابعة من جيش “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط” ضد شهود ميدانيين، آخذة الأمر لمرحلة من الغموض العددي الدقيق في أعداد الصحفيين الشهداء بين 168 و268، وكذلك الخلاف الحاد في مدى فائدة ذلك داخل الأوساط الدولية، بغض النظر عن الاتفاق المسلم به لكونها جريمة حرب مكتملة الأركان، تُستعمل فيها أعتى الأسلحة العسكرية والتكنولوجية والإعلامية، من طائرات مسيرة وتهديدات واتهامات كيدية هدفها الوحيد الإحباط الفوري، ما يزرع قابلية التراجع و”الانسحاب المنطقي لحماية حياته” كما أورد الإعلام العبري.
أما بالنسبة لاستهدافهم المقصود، فالسبب الرئيسي يكمن في اغتيال الحقيقة نفسها بعد إنكار طويل لوجود الإبادة في الشهور الأولى من سنة 2024، مع تجييش الإعلام الدولي والغربي ضد غزة بالأساليب القذرة وغير المهنية بحجة واحدة جاهزة “حماس إرهابية”، لكن بمرور الوقت انقلب الأمر رأسًا على عقب بسقوط السردية الإسرائيلية بشكل مدوٍ حول المظاهرات والاحتجاجات البشرية الغفيرة، روتينًا يوميًا في مختلف عواصم أوروبا من مدريد لباريس، مرورًا بلندن وبرلين، مكونين ضغطًا قويًا على الحكومات الغربية، مكللًا بنجاح باهر عبر إعادة النظر في صفقات السلاح والتجارة البحرية والجوية مع إسرائيل.
ولهذا، نجحت إسرائيل عمليًا فقط في قتل الشهود جميعًا، ظنًا منها بإعدام ناجز للحقيقة من كافة جوانبها السياسية والاجتماعية والعسكرية، التي أثبتت قطعًا الحقيقة الوحيدة، وهي أن محاولة إخفاء الحقيقة وطمسها سيزيد من رسوخها الثابت في الأذهان، مع الانتقال لحقيقة أخرى تتمحور حول استحالة إخفاء بشاعة الأمر وفتكه الناجز برؤيته القائمة بالدرجة الأولى على الانتقام من أصحاب القصص الإخبارية والصحفية حصرًا، لتنتقل لمرحلة قتل الشهود بعد إنكار الوجود، أي وجود الإبادة نفسها على أرض الميدان، لكن الميدان أكبر دليل تكذيبي، مفعم بالجرائم البشعة كافة، من قتل ممنهج وإبادات متعددة وتشريد ونزوح قاتل للروح، وسياسة تجويع هي الأحقر في التاريخ المعاصر.
بشكل عام وشامل، ستواجه إسرائيل نمطًا آخر من الدورة الحياتية للكيان الاستعماري، المعلومة بوحشيتها الشمولية وطغيانها الكبير، إذ أنها تسير على نهج متسارع من الانهيار السياسي، لتبدو كالمجرم الحائم حول جريمته النكراء، باذلًا أكثر ما لديه ليخفيها دون جدوى واقعية، لا لأنها جريمة نكراء فحسب، بل لأنها مكتملة الأركان في العداء لفكرة الحقيقة المحايدة، فضلًا عن تحويل الناقل للحقيقة والشاهد عليها لموضوع الخبر، لن يميت الخبر ولن يخف الجريمة البشعة منذ 22 شهرًا، بل ستبرزها أكثر وتبلورها للعيان.
الميدان فارغ… الحقيقة المعرية التي تقطر ألمًا موحشًا. باغتيال أنس وشهداء الحقيقة، فرغ الميدان الصحفي والحربي في غزة بشكل جذري، مما يعطي إسرائيل فيضًا خصبًا في الجرائم البشعة والاستهداف المباشر للأطفال والنساء، والعمل الدؤوب على إبادة أكبر قدر من القتل المعتمد للعائلات، سواء مجوع أو شريد أو ساع للمساعدات في مصائد الموت، وتنحر غزة ببطء وصمت أكبر، وبذلك يحلو لها تنفيذ الأجندة الإسرائيلية في غزة بمنتهى السعة والأريحية، أي بعبارة أخرى، حولت الإبادة الصحفية للصحفيين من مختلف المؤسسات لنقطة عمياء عن التغطية الإخبارية.
يكمن الألم الجوهري في الأمر أن دورة الحياة اليومية للصحفيين الغزيين في الحرب الأخيرة عبارة عن تضحيات مريرة ومجازفات مؤلمة وخطيرة، أولها وأكثرها خطرًا هي الاحتمالية المفتوحة للقصف الصاروخي في أي لحظة بمبدأ راسخ يقول: “أنت صحفي؛ إذن أنت مستهدف”، والمجازفة الثانية هي أنك تمارس عملك الصحفي أو الإذاعي في عز تجويعك الممنهج وأنت على معدة فارغة. أما فيما يتعلق بالبعد الأسري والعائلي، فرؤيتهم والاجتماع بهم يأتي لمامًا عقب عدة أيام، أو كما أكد لنا الشهيد أنس أن ابنه صلاح لم يتعود عليه نظرًا لقلة اجتماعهما سويًا!!
ولا تتوقف تلك المعاناة العظمى عند تلك الحدود المأساوية، إذ الصحافة الفلسطينية في غزة خاصة تواجه حملات مسعورة ومساقَة بأهداف سياسية مغرضة، مشاركة بها أطراف وصفحات عربية متواطئة مع الاحتلال الإسرائيلي، الذي أنشأ وحدة خصيصًا في الاستخبارات الإسرائيلية، في دلالة واضحة الأغراض، وعلى رأسها تسهيل احتلال غزة أو تسهيل الترويج الإعلامي في الإعلام العبري، الأمر الذي يجعل الصحافة والتغطية الحربية في غزة مهمة مستحيلة الإتمام بحياد ومهنية، غير إيجاد نفسه بين احتمالين لا ثالث لهما، إما شهيد أو مصاب بإصابات خطيرة ومؤلمة، تدل على أن الحقيقة سلاح حاد في وجه الاحتلال الإسرائيلي.
فرغم تلك الانتهاكات والجرائم، يظل الصحفي في غزة صامدًا صابرًا على عمله الخطر والمليء بالتصعيدات المحدقة، فقط لعلمه اليقين أن البديل الوحيد ميدان فارغ وانعدام في التغطية الإخبارية التي توثق الإبادة بكل تفاصيلها الهمجية، مع الوضع في الاعتبار أن صحفي غزة هم الحصيلة الأكبر عدديًا في قتلى الصحفيين على مدار المئة عام، ما يعني أن الأمر شخصي وذا بعد انتقامي، يركن لدرجة العداء المتصاعد مع شخص غير مهموم أو معني إلا بالصورة العاكسة للوضع الميداني، أو حتى الوضع الاستعماري الإحلالي في الاحتلال الإسرائيلي، في مختلف جوانب الحياة بدءًا من السياسة مرورًا بالأسري وانتهاءً بالديني العام.
فرحم الله أنس ومحمد ومؤمن وإبراهيم، جاعلًا إعذارهم الصفي والنقي لله في المتخاذلين العرب والمنبطحين الذين أكلوا في لحمهم وهم أحياء، وكذلك انعدموا من أبسط معايير الشرف الأخلاقي، قاتلين إياهم مرتين أو أكثر، فخرج من الشهداء أدق وأوقع وصية مستمرة: التغطية مستمرة والصوت باق في كل فرد من أفراد عائلتهم بالكامل بمختلف مستوياتهم العمرية وخلفياتهم الثقافية، لما للثأر في النفوس من جذوة حارة، ومحاولة حثيثة لعدم ضياع الرسالة الأخلاقية والتوثيق التاريخي لأكبر جريمة وحشية منذ مجازر البوسنة والهرسك.