أدب
بينما كان الموت يحوم فوق رأس خالد خليفة كظل لا يفارقه، كان يكتب بإلحاح كمن يدون وصيته الأخيرة، كمن يترك أثراً أخيراً قبل أن يبتلعه الغياب. في هذا السياق ولدت روايته “سمك ميت يتنفس قشور الليمون” نصاً مبتوراً ومكتملاً في آن معاً؛ مبتور لأنه لم يحظَ بفرصة المراجعة والتنقيح، ومكتمل لأنه يقطر صدقاً وجودياً لا يحتاج إلى اكتمال شكلي.
اسم الرواية ذاته يبدو كما لو كان مرثية له، صورة مكثفة لحياة تتشبث بأنفاسها الأخيرة، السمك الميت الذي يتنفس ليس سوى استعارة عن خليفة الذي ظل يكتب رغم وطأة المرض، وعن بلد يختنق تحت رماد القهر لكنه يواصل محاولة التنفس. صدور الرواية بعد موت صاحبها أضفى عليها طبقة من الدلالات الموجعة، فهي لم تعد مجرد عمل أدبي، بل تحولت إلى وثيقة وداعية، إلى شهادة على حياة أنهكتها السلطة والخذلان والمرض. هكذا تصبح الرواية قراءة للذات وللوطن في لحظة تداخل الفقد الشخصي والجمعي، نصاً يواجه الفناء بفعل الكتابة ذاته، ويترك للقارئ إرثاً يفيض بالحياة رغم الموت.
يبدو النقصان في النص كأنه أثر جانبي لرحيل الكاتب قبل إتمام مشروعه، لكن القراءة النقدية تكشف أن هذا الفراغ يمنح العمل طاقة استثنائية، إذ يتحول إلى مساحة يتداخل فيها صوت القارئ مع أصوات الشخصيات، فيصبح النقص نفسه شكلاً من أشكال الاكتمال المغاير. الرواية، المؤلفة من أربعة فصول، تنطق بأربعة أصوات مختلفة لأصدقاء تتناوب حكاياتهم، كلٌ منهم يتحدث بصيغة المتكلم، كأن خليفة أراد لكل صوت أن يحمل ذاكرة طبقة، ودين، وموقف تاريخي متباين.
هنا نرى الشاب المنتمي لعائلة إقطاعية تستحضر ماضياً مهيباً يواجه حاضراً مذلاً، والآخر المستفيد من الامتيازات الحكومية التي مُنحت من خلال القرب من السلطة، وثالث يأتي من خلفية مسيحية ، ورابع مسلم. أما الصديقة الأخيرة، فهي الوجه الأوضح لجيل الهاربين، الذين لا يملكون إلا الحلم بالرحيل عن بلادٍ تبتلع المختلفين. هذا التعدد لا يقدم مجرد فسيفساء اجتماعية، بل يعكس انهيار الانسجام في نسيج سوريا، وصراع الهويات الذي يغلي تحت السطح.
في هذه التقنية، يضعنا خليفة أمام سوريا بصورتها الحقيقية: متشظية، متداخلة، ومفتوحة على نهايات غير محسومة. النقصان هنا ليس ضعفاً، بل شهادة على بلد مميز باختلافه وتنوعه.
في سمك يتنفس قشور الليمون يتحول السرد إلى مرآة مصقولة تعكس بجرأة الواقع السوري في أكثر صوره وحشية وتعقيداً. خالد خليفة لا يكتب عن سوريا في ظل حكم البعث بخطابات شعاراتية أو انتقادات صاخبة؛ بل يغوص في التفاصيل الصغيرة، في اليوميات التي تكشف عنف السلطة وقدرتها على اختراق النفس البشرية وتحويلها إلى حلبة صراع بين الرغبة في الحياة والخوف من الفناء.
الأصدقاء الأربعة وأجدادهم وتاريخ عائلاتهم ليسوا شخصيات معزولة، بل يمثلون طبقات اجتماعية وهويات طائفية متباينة، جميعها عالقة في شبكة الطغيان: الجدة التي تبني غرفة للبصق على صور القائد تفعل ذلك كنوع من المقاومة السرية، في عزلة مريرة لا يجرؤ فيها أحد على البوح؛ والجلاد الذي استباح أجساد المعتقلين يجد نفسه لاحقاً مطارداً بأشباح ضحاياه، كأن العنف نفسه ينقلب على من مارسه.
هكذا، يصبح النص استعارة كثيفة عن سوريا الممزقة: بلد ابتلعته الطائفية، فاختفى صوت الفرد لصالح سلطة مطلقة صنعت الهزيمة وأودعتها في اللغة والجسد. رواية خليفة هنا ليست فقط قصة شخصيات، بل شهادة أدبية عن وطن عاش مأساة الخوف كقدر لا فكاك منه والثورة كضرورة لا بد منها.
في الرواية يشكّل طمس الشاطئ الغربي لللاذقية حدثاً متكرراً، كأن الرواية تضع إصبعها على جرح لم يلتئم، جرح يرمز إلى محو الذاكرة الجمعية ومسح معالم المكان. الجملة الشعبية ” بلط البحر” التي يستخدمها السوريون عادة للدلالة على استحالة الفعل، تتحول هنا إلى حقيقة مرعبة: النظام نفذها حرفياً، بلّط البحر بالإسمنت، وأغلقه أمام العيون والقلوب، ليقضي بذلك على تاريخ طويل من الذكريات، والقصص، واللقاءات التي احتضنها الشاطئ لعقود.
هذا الفعل يحمل أكثر من بعد؛ فهو ليس مجرد مشروع عمراني قمعي، بل إعلان رمزي عن سلطة ترى في البحر رمز الحرية والانفتاح تهديداً لها، فقررت إخضاعه وتحويله إلى جدار صامت. في سرد خليفة، يصبح البحر المغتصب مرآة لسوريا المسلوبة، حيث تُطمس الأماكن لطمس البشر، ويُمحى الأفق لإلغاء أي حلم بالخلاص. حين حاول الناس الاحتجاج على هذا الاجتثاث، أُذلوا وأُهينوا، حتى غدت المقاومة ذاتها طقساً داخلياً، كما فعلت الجدة التي ابتكرت غرفتها للبصق على صور القائد. هنا، الطغيان يتجلى في أبهى صوره: سلطة تجرؤ حتى على محو البحر، من خلال تحويله إلى مساحة بلا ذاكرة، بلا حياة، وبلا موج.
كتب خالد خليفة روايته في زمن الثورة السورية قبل التحرير بعامٍ ونيّف، حين كان الأمل هشاً والثمن فادحاً، وحين كان سقوط الطاغية يبدو بعيداً لكنه ممكن في مخيلة أولئك الذين ما زالوا يؤمنون بالتغيير. الرواية، التي تعود بأحداثها إلى بدايات حكم البعث وبسط قبضته الحديدية على الشعب، تحمل اليوم قراءة جديدة في ضوء الواقع الذي تغيّر. بعد سقوط النظام، تبدو كلمات خليفة أشبه بوصية أدبية، نص سبق زمنه، يرثي الخراب الذي كان، وينذر بالخراب الذي قد يكون إن لم يُجتث الطغيان من الجذور.
السوريون الذين خرجوا من قبضة المستبد، يواجهون اليوم سؤالاً أكبر: كيف يتحرر المرء من الخوف المزمن ومن الطاغية الداخلي الذي تركه النظام في النفوس؟ الرواية، إذ تعري بدايات الاستبداد، تدفع القارئ لرؤية ما بعد السقوط كمرحلة فارقة، حيث الخلاص الحقيقي لا يكون بهدم التماثيل فقط، بل بإعادة بناء الإنسان. هنا، يلتقي النص بالمستقبل كتحذير وبذرة أمل.
لغة على حافة النزيف: شاعرية الألم وصدق المسودات
لغة خالد خليفة في الرواية تحمل طابعاً استثنائياً، فهي لغة مشحونة بالتوتر، تلهث مع الكاتب كأنها تكتب على إيقاع أنفاسه الأخيرة. الجمل قصيرة، متوترة، تقفز بين المعاني بإيقاع مضطرب يعكس اختناق الشخصيات واختناق المؤلف نفسه تحت وطأة المرض والذاكرة. الصور تأتي مكثفة، حادة، كطعنة تلتقط الألم في لحظته الأولى، وتجعل من لحظات الانتهاك مشاهد مؤلمة لكنها تحمل مفارقة جمالية، حيث يتجاور القبح مع قدر من اللذة السردية السوداء.
هذا التوتر يجعل اللغة أشبه بكائن حي ينزف على الصفحة، وفي بعض المواضع، يبدو النص مسودة مفتوحة: فجوات، تعجل، تراكيب أولية. لكن هذه الملامح لا تنتقص من النص، بل تمنحه صدقاً خاماً نادراً، كأن خليفة قرر أن يكتب الحقيقة كما هي، دون تنميق أو زينة. وبين السخرية اللاذعة والغنائية الجريحة، تتحول اللغة إلى أداة فضح وسرد، قادرة على أن تحبس القارئ داخل تجربة الألم السوري، وتجبره على مواجهة العنف والخذلان والذاكرة التي لا تكف عن النزيف. هذه ليست لغة مكتوبة بكامل الوعي، بل لغة رجل يترك وصيته الأخيرة للعالم.
في سمك ميت يتنفس قشور الليمون يكمن سر النص في مفارقته العميقة: فهو ناقص شكلياً، مكتمل وجودياً.عدم اكتماله ليس خللاً، بل جزءاً من جماله القاسي؛ نص كتبه خليفة كمن يترك أثره الأخير، فترك فراغات تمنح القارئ دوراً في إعادة بناء الحكاية.
هذا النص ينتمي إلى تقليد الأعمال الناقصة العظيمة؛ حيث يصبح السؤال أكبر من الرواية: هل يمكن لوطن ممزق أن يعيد صياغة نفسه؟ وهل يكفي سقوط الطغاة لينهض الإنسان؟. خليفة، في نصه الأخير، لا يقدّم أجوبة، بل يتركنا أمام احتمالات مفتوحة، كأن حياته والنص معاً توقّفا عند حافة نفس أخير لم يُكمل زفيره.